استقبل العاهل المغربي الملك محمد السادس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحفاوة كبيرة من قِبل العاهل المغربي الملك في أكتوبر 2024. وقد سبق هذه الزيارة بعدة أسابيع قرار ماكرون بالاعتراف علنًا بسيادة المغرب على الأراضي المحتلة من الصحراء الغربية. لفهم أسباب هذا القرار لا بد من توسيع التحليل التاريخي والسياسي والجغرافي، والعودة إلى السنوات القليلة عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، ففي الواقع إن تحليل مشروع "أورافريك" الذي وُضع في خمسينيات القرن الماضي يساعدنا على تحديد الطموحات الأوروبية المستمرة في إفريقيا والتي ما تزال قائمة حتى اليوم.
في سياق هذا المشروع وقبل كل شيء، لا شك أن "الهدية الصحراوية" التي قدّمها ماكرون للملك محمد السادس هي فرصة استراتيجية تخدم المصالح الجيوسياسية لفرنسا بل وعلي نطاق الاتحاد الأوروبي كله بما يسمح لفرنسا بإعادة التموضع في القارة الإفريقية بعد انتكاستها في منطقة الساحل، فقد تم تطوير مشروع أورافريك بطريقة منهجية، آخذاً بعين الاعتبار الزمن والجغرافيا والفرص وبجوهره صُمّم المشروع برؤية طويلة الأمد ولهذا السبب ما يزال غير مكتمل حتي الأن.
رأى الاستراتيجيون الفرنسيون عقب الحرب العالمية الثانية أن فرنسا التي كانت آنذاك منهكة لا يمكنها الحفاظ على مكانتها كقوة عالمية إلا بالإعتماد على أراضيها الإفريقية التي يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في طموحاتها الدولية وكان التصنيع الفرنسي مرهونًا بمنظور "أوروأفريقي" وبالاعتبارات الجيوسياسية والعسكرية وكانت الأراضي الإفريقية ومواردها من الطاقة والمواد الخام كفيلة بتمكين فرنسا من الحفاظ على مكانتها السياسية والاقتصادية على الصعيد العالمي، كما كان يُنظر إلى مشروع الأورافريك أيضًا كأداة لموازنة النفوذ المتصاعد للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق ومواقفهما المناهضة للاستعمار.
غير أنّ تحقيق المصلحة الفرنسية والأوروبية من 'الفرص الإفريقية' كان يقتضي أولًا تعزيز القارة الأوروبية ذاتها. وفي هذا السياق، كان "مشروع شومان" عام 1951 وبناء الاتحاد الأوروبي جزءًا من مشروع أورافريك الأشمل. فكانت الخطوة الأولى هي توحيد وتنمية دول أوروبية أخرى مثل إسبانيا وإيطاليا، كما اعتُبر توحيد ألمانيا جزءًا من العملية الاستراتيجية ذاتها. ومن الصعب – إن لم يكن من المستحيل – فصل مشروع أورافريك عن سقوط القذافي عام 2011؛ ورغم أن منظّري أورافريك لم يكن بمقدورهم توقع هذا الحدث، إلا أن الموقع الجيوسياسي لليبيا كان مذكورًا بشكل صريح في المشروع.
كتب أنطون زيشكه عام 1952 في كتابه " إفريقيا مكمّل أوروبا" أن على الأوروبيين التركيز على بلدان الساحل الشمالي والجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. وكانت ليبيا بمثابة قضية أوروبية بل عالمية تمثل اختبار للقارة الإفريقية بأسرها. وأضاف قائلًا : لحسن الحظ يتم انجاز العمل في المستعمرات الفرنسية بشمال إفريقيا خاصة في المغرب والنيجر.."
هذا المقال من عام 1957 يوضح أن التخطيط الاستراتيجي لمشروع أورافريك كان قائمًا على الصبر وإعادة التكيّف.
لا بدّ من الحديث عن مشروع «الأوروأفريقيا» والإكثار من تداوله فهذا المفهوم ما زال غير محدد على الرغم مما يختزنه من إمكانات، ولن تتضح ملامحه إلّا من خلال مسار بطيء يتشكّل بفعل تيارات متنافسة فإن غياب الشكل الواضح في الوقت الراهن لا يُعدّ عيبًا، بل فرصة لإعادة صياغته وفقًا لأفكار وحقائق متطورة وإ الكلمات المفتاحية مثل «المسار البطيء» و«إعادة التشكيل» و«التطور» و الحاجة إلى تخطيط استراتيجي بمرونة تتماشى مع التطورات التاريخية.
وبالإستناد علي هذا فإن سقوط القذافي يرتبط إرتياط وثيق بالبناء المستمر لمشروع أورافريك وفي هذا الصدد تذكّرنا ليبيا بالأهمية الحاسمة للجغرافيا، إذ يؤكد روبرت كابلان ونيكولاس سبايكمان في كتابهم إنتقام الجغرافيا (2013) أنّ الجغرافيا تكشف عن النوايا بعيدة المدى لأي حكومة وتظل العامل الأكثر جوهرية في السياسة الخارجية، لكونها العنصر الأكثر ثباتًا.
وفيما يخص ليبيا، أكدت السلطات الفرنسية عام 2019 أنّها تدعم كل ما يضمن سلامة الشعب الفرنسي وحلفاءهم، بما في ذلك دعم حفتر والجيش الوطني الليبي كما أشار «الكتاب الأبيض» الفرنسي لعام 2008 حول الدفاع والأمن القومي إلى أنّ «منطقة الأولوية الاستراتيجية» لفرنسا تمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، وتشمل البحر الأبيض المتوسط والبحرالأحمر ومنطقة الساحل ـ الصحراوية.
لقد مثّل القذافي شوكة حقيقية في خاصرة باريس، خصوصًا في ما يتعلق بمستعمراتها الإفريقية السابقة. فمن خلال ضخ عائدات النفط في «مجموعة دول الساحل والصحراء» (س.ص.س) التي أسسها، سعى إلى تقليص نفوذ فرنسا في هذه الدول. وبعد سقوطه، حاول المغرب الاستحواذ على قيادة المجموعة، بل استضاف اجتماعًا لوزراء خارجيتها في الرباط، مؤكّدًا طموحه في قيادة المنطقة، وربما ضمان دعم أكبر لتطلّعه إلى السيطرة على فضاء الساحل الصحراوية.
ومع تولّي المغرب رئاسة المجموعة التي تمثل الحليف الإقليمي الرئيسي لفرنسا ، باتت باريس قادرة على ممارسة نفوذ أكبر في منطقة الساحل وتعزّز هذه الاستراتيجية حضور إسرائيل المتنامي في الإقليم وتحالفها الوثيق مع الرباط. ومن ثمّ فإنّ اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية ينسجم بوضوح مع الاستراتيجية الأوسع لمشروع أورافريك.
وفي هذا السياق، كتب مالك بن نبي في كتابه الصراع الأيديولوجي (2014):
«الاستعمار سيجد دائمًا من يسلّمه مفاتيح القلعة مقابل تعويض مالي يفسد ضميره»
ويرى بن نبي أنّ الاستراتيجية الأيديولوجية للاستعمار تقوم على منع التلاقي بين الفكر والعمل السياسي، بحيث يصبح الفكر عقيمًا والسياسة عمياء. وهو يتكيّف باستمرار، مستغلًا جهل الجماهير، ومعتمدًا على المال كسلاح ويضيف قائلًا أن
الحضارات لا تُخلق عشوائيًا الاستعمار يضع الخطط العسكرية ويوجّه التعليمات استنادًا إلى معرفة نفسية عميقة بمجتمعات المستعمَرين، مما يمكّنه من التلاعب بضمائرهم تبعًا للطبقات والمستويات الاجتماعية. إنّه يستخدم خريطة نفسية للعالم المستعمَر، يتم تحديثها يوميًا من قبل خبراء في مراقبة الأفكار وضبطها. فالاستعمار يتحدث بلغة الأفكار، وهي لغة يسهل إفسادها بين الطبقة المثقفة.»
اليوم، يزداد مشروع أورافريك راهنيةً في ظلّ ما تواجهه فرنسا والاتحاد الأوروبي من انتكاسات سياسية واقتصادية أمام قوى صاعدة مثل الصين وتكتّل «بريكس+». ففي تقرير صدر عام 2024، حذّر ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، من أنّ أوروبا تتراجع خلف الولايات المتحدة والصين. وبالنسبة له، يواجه الاتحاد الأوروبي تهديدًا وجوديًا، وهو محكوم بـ«موت بطيء» إذا لم يغيّر مساره.
لقد صُمّم مشروع أورافريك منذ بدايته كاستراتيجية طويلة المدى تتطلّب الصبر والقدرة على التكيّف. لم يكن الهدف استغلال إفريقيا فورًا، بل وضع أسس عقلانية وتحديد أولويات واضحة. وكما قال زيشكه:
«إنّ إنشاء أورافريك مشروع ملموس وبسيط وقابل للسيطرة – مهمّة للمهندسين، غير معنيين بمؤتمرات السلام العالمية أو الشعارات الدعائية. أورافريك سيُبنى ببرود من قِبل الفنيين، وعلى أساس بيانات واقعية»ومن ثمّ، ظلّت مبادئ الصبر، والاستراتيجية، والمرونة، والهدوء العقلاني، حاضرة دائمًا في تصوّرات منظّري أورافريكوعليه، فإنّ قرار ماكرون الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية المحتلة لا يمكن فهمه إلّا ضمن إطار الطموحات الجيوسياسية الأوسع لفرنسا في منطقة الساحل، باعتباره جزءًا من مشروع أورافريك. فبعد أن طُردت باريس من الساحل عبر «الباب الأمامي»، تسعى اليوم إلى العودة عبر الصحراء الغربية مرورًا بالمغرب. وفي هذا السياق، وصف وزير الخارجية الفرنسي الأسبق جان إيف لودريان وجود فرنسا في الساحل بأنّه «إعادة تنظيم ذكية»، تقوم على «تقليص وجودنا العسكري مع زيادة نفوذنا». ومع المستجدات الجيوسياسية، تتحوّل باريس استراتيجيًا نحو الرباط.
وفي سياق مقارن، ذكر تقرير أي طريق نحو إيران؟ الصادر عن معهد بروكينغز عام 2009 أنّ التدخل المباشر للولايات المتحدة في إيران لتغيير النظام سيكون صعبًا، وأنّ خيارًا أكثر موثوقية وأمانًا هو «ترك الأمر لبيبي»، أي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وعلى نحو مشابه، يمكن النظر إلى علاقة إيران ـ إسرائيل من جهة، والمغرب ـ الساحل من جهة أخرى.
إنّ اعتراف باريس بسيادة المغرب على الصحراء الغربية يمثّل إعادة تموضع لضمان استمرار حضورها ومصالحها الجيوسياسية في منطقة الساحل. وخلال زيارة ماكرون إلى المغرب، أعلن مع محمد السادس «مرحلة جديدة للعلاقات الثنائية» و«طموحًا جديدًا للثلاثين عامًا المقبلة»، بأهداف استراتيجية واسعة لترسيخ الشراكة الفرنسية ـ المغربية عند مفترق أوروبا وإفريقيا، في وقت يشهد تحوّلات دولية متسارعة. وبعبارة أخرى: «اتركوا الساحل لمحمد السادس.!»
كما تسمح هذه الاستراتيجية الإقليمية للمغرب بجذب دول الساحل الحبيسة، مثل مالي، إلى مشروع افتراضي يمنحها منفذًا إلى المحيط الأطلسي عبر أراضي الصحراء الغربية المحتلة. وكما يقول المؤرخ المالي دولايه كوناتي، رئيس «جمعية المؤرخين الأفارقة»: «من يسيطر على مالي يسيطر على غرب إفريقيا، إن لم يكن على القارة كلها.»
وتؤكّد هذه المعادلة الجديدة أنّ مشروع أورافريك، الذي قد يظنّ البعض أنّه طُوي في الأرشيف، لا يزال حاضرًا بقوة في تصوّرات المخططين الجيوسياسيين في الخفاء. وكما يذكرنا رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك: «ما نقوم به خلف الكواليس، بعيدًا عن أعين العامة، أهم بكثير من مسرحية الشعارات.»
وأخيرًا، فإنّ الحملة الدبلوماسية الفرنسية الجديدة عبر المغرب تُبرز أنّ إفريقيا ما تزال مسرحًا لصراعات القوى العظمى. وفي هذا الصدد، يقول أشيل مبمبي: «إفريقيا كانت – وما زالت – مختبرًا للعولمة المتوحشة». إنّ عجز العديد من القادة الأفارقة، أو رفضهم، إدراك هذه الحقيقة، وافتقارهم إلى رؤية استراتيجية طويلة المدى، يسهّل رسوخ القوى الأجنبية عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا في القارة، بما يهدّد جوهر الوجود الإفريقي ذاته.
ومن المهم التذكير هنا أنّ نيل الدول الإفريقية استقلالها السياسي لم يواكبه بعد انتصار في «معركة الأفكار». وطالما لم يعترف قادتها بأنّ فهم أسباب الفشل أهم من معالجة أعراضه، فلن يكون هناك خلاص للقارة. وكما قال مالك بن نبي: «إنّ المجتمع الذي يعيش أزمة أخلاقية وفكرية مزدوجة على مستوى قيادته لا يستطيع أن يوفر الشروط الضرورية لمناعة وفاعلية الأفكار. بل يصبح أكثر عرضة للتدخلات المؤذية، إمّا بسبب عجز أخلاقي في بيئته، أو قصور فكري يخونه.»
وفي الأثناء، لا شك أنّ باريس، بعد تقليص وجودها العسكري في الساحل، تعتزم تكثيف حضورها في إفريقيا، مستندة إلى الرباط، التي تُعد بدورها حليفًا وثيقًا لتل أبيب.
الصورة © ناتاليا دي لا روبيا عبر Shutterstock.com عبر Africa is a Country