ما بين ثمانية وتسعة آلاف: هذا هو العدد التقريبي للذين يتعرضون للحبس في ألمانيا كل عام لعدم دفع تذكرة النقل العام. وفور اكتشاف الأمر، يُطلب من الركاب دفع غرامة تصل إلى 60 يورو (70 دولارًا). ومن لا يستطيعون الدفع وتتراكم غراماتهم يواجهون عقوبة السجن لمدة تصل إلى عام. ولا يثير الدهشة أن الفقراء هم مَن ينتهي بهم المطاف في السجن. وفقا لمؤسسة (Freiheitsfonds) "مشروع صندوق الحرية"، الذي تستهدف حملاته المسجونين بتهمة التهرب من دفع الأجرة، فمنهم 87 في المائة عاطلون عن العمل، و15 في المائة بلا مأوى، و15 في المائة عرضة لمخاطر الإقدام على الانتحار. ومما عقّد المشكلة أكثر أن سجناء كثيرون كانوا قد خسروا منازلهم عندما حان موعد إطلاق سراحهم.
المادة (265a) من القانون الجنائي الألماني، وهي المادة القانونية المتسببة في العقاب المبالغ فيه للمتهربين من الأجرة، طُبقت لأول مرة في سبتمبر 1935، بعد أكثر من عامين من تولي النازيين السلطة. نيكول بوغلين، عالمة جريمة في جامعة كولونيا، أطلعتنا على الأصول التاريخية للمادة (265a). وعلقت أن الإجراء لم يستهدف في الأصل منع الاحتيال في وسائل النقل، ولكن الحد من "إساءة استخدام الهواتف التي تعمل بالنقود المعدنية". في تلك الفترة، "اُعتبرت إساءة استخدام ماكينات البيع الآلي" الطريقة الأكثر شيوعًا والأخطر اقتصاديًا من طرق احتيال الخدمات".
وفي زمننا الحاضر، يمثل التهرب من دفع الأجرة معظم الحالات بموجب المادة (265a). وقد أخبرني ليو إيسن، الذي يعمل في مؤسسة (Freiheitsfonds)، أنه "ليس غريبًا أن القوانين التي تعود أصولها إلى الفترة النازية لا تزال سارية في قانون العقوبات الألماني". ومع ذلك، فالمادة (265a) خاصةً هي "مثال يوضح كيف تتسبب استمرارية قانون صدر خلال ذلك العهد في عواقب اجتماعية قاسية اليوم، خاصةً للفقراء". ويضيف إيسن أن هذه المادة القانونية "لا تعود فقط إلى فترة مثيرة للجدل ومشحونة بالأحداث التاريخية؛ إلا إنها تعكس بوضوح العقلية الاجتماعية الشوفينية للمشرّعين في تلك الحقبة".
شهد نوفمبر 2024 سقوط الحكومة الألمانية المكونة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، والخضر، وحزب الديمقراطيين الأحرار النيوليبرالي (FDP). وبعد أشهر من تفاقم الخلافات الداخلية، أقال المستشار آنذاك أولاف شولتس زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار ووزير المالية كريستيان ليندنر. كما انسحب وزيران آخران من حزب الديمقراطيين الأحرار، بمن فيهما وزير العدل ماركو بوشمان.
وكان بوشمان يتحدث عن ضرورة إصلاح المادة (265a) من قانون العقوبات منذ عام 2022. إلا أنه غادر الحكومة قبل أن يصل مشروع القانون لتغيير المادة (265a) إلى أي جلسة عامة بالبرلمان. وكان بوشمان يعتزم خفض تصنيف التهرب من دفع الأجرة من جريمة جنائية إلى مخالفة إدارية، على غرار الانتظار الخاطئ بساحات السيارات، مما يعني عدم تعرض آخرون للسجن بسبب ذلك.
وحظي هذا الإصلاح بدعم شعبي بين الأحزاب المختلفة. ووفقًا لاستطلاع للرأي أجري في عام 2023، أيّد 69 في المائة من الألمان إعادة تصنيفها إلى مخالفة إدارية. وكان الناخبون لصالح حزبي الخضر واليسار الألماني (Die Linke) الأكثر تأييدًا، ولكن كانت هناك أغلبية تؤيد التغيير حتى بين الأكثر ترددًا، أي الناخبين للحزب اليميني المتطرف البديل من أجل ألمانيا (AfD) وحزب الديمقراطيين الأحرار (FDP). فلم تكن الردود قاطعةً بنفس الدرجة عندما سأل منظمو استطلاع الرأي المواطنين عن مدى استحسانهم لفكرة أن المتهربين من دفع الأجرة قد ينتهي أمرهم في السجن. فقد رأى خمسون في المائة أنه إجراء مجحف، لكن 45 في المائة اعتبروه مناسبًا.
وهذا الدعم عبر الأحزاب ليس مفاجئًا إذا أخذنا في الاعتبار أن أطراف سياسية مختلفة قد دعمت تغيير التشريع الحالي. بينما يبرز المنظور اليساري الذي يؤكد على عدم المساواة بين الفقراء والأغنياء أمام القانون، يتذمر رأي أكثر نيوليبرالية من التكاليف غير الضرورية التي تتحملها الدولة. إن تكلفة سجن شخص لمدة أربعين يومًا في برلين الباهظة - وهي عقوبة واقعية - فقد تصل إلى 9000 يورو (10560 دولارًا) دون احتساب التكاليف التي تتكبدها المحاكم والشرطة.
وفي برلين وهامبورغ وميونيخ، أكبر ثلاث مدن في البلاد، تواصل سلطات النقل العام المحلية إبلاغ الشرطة عمن لا يدفعون التذاكر بشكل متكرر. لكن مدن أخرى مثل كولونيا أو بون أو بريمن أو دريسدن أو لايبزيغ اتخذوا نهجًا مختلفًا في السنوات الأخيرة. فعلى الرغم من أنه لا تزال الغرامة هي عقوبة التهرب من دفع الأجرة، إلا أنه لم يعد يتم إبلاغ الشرطة عن المتهربين من الدفع.
تعلل عالمة الجريمة بجامعة كولونيا بوغلين بأنه "يجب إلغاء مادة التهرب من دفع الأجرة من القانون الجنائي أو الإداري". وبالنسبة لها، تنفذ حاليًا هذه العقوبة مرتين، مرة من شركة النقل العام وأخرى من الدولة. بينما تطالب شركات النقل العام بدفع غرامة، فعقوبة الدولة تزيد الطين بلة.
وتقترح بوغلين بدلًا من ذلك إضافة التهرب من الأجرة فقط في القانون المدني. وبالمثل، يوضح إيسن من مؤسسة (Freiheitsfonds) أن منظمته تدعو إلى فعل أكثر مما يشمله اقتراح بوشمان وهو إلغاء المادة (265a) دون وضع بديل لها. ويرى بأن "إجراءات القانون المدني الحالية كافية للتعامل مع الأُجرة غير المدفوعة. يجب ألا يتعرض الأفراد لاتهامات جنائية أو للسجن لعدم امتلاكهم تذكرة".
يمثل المتهربون من دفع الأجرة نسبة صغيرة من حوالي خمسين ألف شخص يُسجنون في ألمانيا كل عام، رغم أنه لم يُحكم عليهم بالسجن في البداية. ولأنهم لا يملكون المال لدفع الغرامات فمصيرهم خلف القضبان. بالإضافة إلى التهرب من الأجرة، تشمل المخالفات الشائعة الأخرى في هذه الفئة القيادة بدون رخصة أو السرقة.
ولا تُظهر الإحصاءات المتعلقة بالسجناء آثار الفقر فحسب، بل أيضًا الانقسامات التي لا تزال تقسم ألمانيا بعد خمسة وثلاثين عامًا من إعادة توحيد البلاد، فلا تزال الولايات الفيدرالية الخمس التي كونت جمهورية ألمانيا الديمقراطية (GDR) هي أفقر خمس ولايات.
والولايات الفيدرالية الثماني صاحبة أدنى نسبة من السجناء لعدم دفع الغرامات في عام 2021 كانت إما برلين أو في ألمانيا الغربية. بينما حلّت ثلاث ولايات من الولايات الفيدرالية الخمس التي انتمت إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية بين الولايات الأعلى معدلًا للسجناء بسبب الغرامات غير المدفوعة. على سبيل المثال في عام 2020، كان 10 في المائة من سجناء فئة غير دافعي التذاكر من ولاية براندنبورغ الشرقية.
تشير العقوبة القاسية لمَن لا يستطيعون دفع الغرامة إلى مشكلة أعم، وهي تحويل الفقر إلى جريمة في مجتمع تتفاقم فيه عدم المساواة. ففي العقد الأول من الألفية، في ذروة ما يسمى بـ "سنوات ميركل"، شهدت ألمانيا ارتفاع مؤشر جيني (الذي يقيس عدم المساواة الاقتصادية) من 30.8 إلى 32.4. وفي الفترة نفسها، نسبة المعرضين لخطر الفقر ارتفعت من 14.5 إلى 16.3 في المائة من السكان.
ومن غير المرجح أن تتحسن تلك النسب في ظل الحكومة الألمانية الحالية، بالقيادة اليمينية للاتحاد الديمقراطي المسيحي. المستشار الجديد، فريدريش ميرتس، يُفضل أن يعلن عن نفسه كعضو من الطبقة المتوسطة العليا، لكنه في الحقيقة مليونير ومدير سابق في شركة إدارة الاستثمار بلاك روك، ويتباهى بامتلاكه لطائرة خاصة.
وبالنظر إلى تركيزه على الموضوع، فحل ميرتس لاستعادة النمو الاقتصادي الألماني، والذي تؤيده وزيرة الاقتصاد كاترينا رايشه، يقوم على مطالبة الألمان بالعمل لساعات أطول وحتى سن متقدم. وفي أحد قراراتها الاقتصادية الكبرى الأولى، تبنت الحكومة إعانات لخفض أسعار الطاقة لقطاعات الزراعة والصناعة دون ضم المنازل والشركات الصغيرة. وهذا بمثابة إعادة توزيع غير عادل للثروات، كما إنه إخلال بوعده بخفض أسعار الطاقة للجميع، الذي أعلن عنه بعد تشكيل الحكومة في مايو.
ويثير تدهور أسعار الطاقة شكوك أكثر حول ما إذا سيكون الشريك الأصغر للمستشار ميرتس، الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، مستعدًا أو قادرًا على السيطرة على أسوأ سقطاته النيوليبرالية. فوزيرة العمل باربل باس، وهي رئيسة مشاركة للحزب الاشتراكي الديمقراطي، تنتمي إلى الجناح اليساري للحزب وانطلقت مسيرتها المهنية من بدايات متواضعة. ومع ذلك، فزميلها الشريك في الرئاسة للحزب الاشتراكي الديمقراطي لارس كلينغبايل، وهو أيضًا وزير المالية ونائب مستشار ألمانيا، عضو في (Seeheimer Kreis)، وهو الجناح المحافظ للحزب. وكان قد عيّن كلينغبايل موالين كُثر له في الحكومة.
باس، التي كانت قد وعدت في المؤتمر الأخير للحزب الاشتراكي الديمقراطي بعدم إجراء تخفيضات كبرى للإعانات الاجتماعية خلال توليها الوزارة، تواجه تحديًا صعبًا بعد عطلة البرلمان الصيفية، حيث من المتوقع إجراء تغييرات جوهرية في إعانة البطالة (Bürgergeld) أو إعانة المواطن. وبرنامج الرعاية الحكومي، المخصص لمَن لا دخل لهم أو لا يكسبون ما يكفي لإعالة أنفسهم وذويهم، استهدفته الصحيفة الشعبية بيلد (Bild) (التي تعتبر الصحيفة الأعلى توزيعًا في أوروبا) ومن السياسيين من اليمين واليمين المتطرف.
وترى هذه الأطراف أن أي حالة احتيال حقيقية أو مزعومة في مجال الرعاية الاجتماعية سيستخدم كذريعة للإدانة العامة للإعانات التي يتلقاها أكثر من 5.5 مليون شخص في ألمانيا. كما يطالبون بعقوبات أشد صرامة على مَن يرفضون عروض العمل التي لا تتناسب مع مؤهلاتهم، وتقليص الأموال التي تُنفق على تكاليف السكن. وما يغيب عن النقاش أن مَن يحق لهم الحصول على إعانة (Bürgergeld) من العاملين في تزايد لأن الرواتب لم تعد تواكب التضخم، وامتلاك وظيفة ليس ضمانًا لتجنب الفقر. وعلى الرغم من اهتمام الإعلام، يبلغ الاحتيال في إعانة (Bürgergeld) حوالي 260 مليون يورو (301 دولار) سنويًا، وهي نسبة ضئيلة مقارنةً بـ100 مليار يورو (115 مليار دولار) تخسرها ألمانيا كل عام نتيجة الثغرات الضريبية ونفقات الشركات متعددة الجنسيات التي تعمل مع مؤسسات خارج البلاد.
إذن، ما الأمل في إلغاء تجريم التهرب من دفع الأجرة في ظل هذه الحكومة؟ يشير إيسن من مؤسسة (Freiheitfonds) إلى أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي يحتفظ الآن بوزارة العدل و"أعلن دعمه مرارًا وتكرارًا لإلغاء هذه المادة البالية". لقد حان الوقت ليثبتوا صدق نواياهم، هكذا أضاف إيسن، والذي يعتبر مع ذلك الاتحاد الديمقراطي المسيحي الفيصل الرئيسي في هذا الإجراء.
في غضون ذلك، في سبتمبر من هذا العام، تخطط مؤسسة (Freiheitfonds) للاحتفال بحلول الذكرى التسعين لصدور المادة (265a) بطريقة مميزة إلى حد ما؛ فهم يجمعون الأموال لدفع غرامات السجناء من متهربي دفع التذاكر وسيحتفلون، على حد تعبيرهم، بـ"أكبر عملية تحرير للسجناء في تاريخ جمهورية ألمانيا الاتحادية".
مارك مارتوريل جونينت مؤلف وباحث مقيم في ميونيخ.