هاڤانا - وعاد مشهد الجياع الذين ينبشون حاويات القمامة بحثا عن الطعام و يستجدون المارة، للظهور بصورة شائعة مرة أخرى في مدن في الولايات المتحدة وأوروبا أكثر منه في هاڤانا. ولكن سلسلة من التحركات الهادئة، التي بدأ بها ترامب، ويستمر بها الآن بايدن، أدت إلى بزوغ أزمة إنسانية في كوبا.
وقد حجز رامون مونتاجودو، 72 عامًا، وهو مدرس تاريخ متقاعد، مقعد في الصف الأمامي لمشاهدة الحُطَام الجاري في كوبا، بينما يراقب العالم وهو يمر من حوله كل يوم من تحت مظلة شرفته في جَنُوب هاڤانا. فحتى سنوات قليلة مضت، كان عمال النظافة يفرغون بانتظام حاويات النفايات الزرقاء على ناصية شارعه، حيث اعتاد هو وجيرانه إلقاء نفاياتهم المنزلية. أَمَّا الآن فتتدفق أسْرابٌ الذباب فوق تلال من القمامة في أجواء من الحرارة اللزجة. وهو يشاهد بعضًا من جيرانه الأكثر فقرًا - والذين كانوًا قبل سنوات قليلة يجدون كفاف يومهم- يلتقطون بقايا الطعام من القمامة.
ويعلق مونتاجودو قائلا "حينما يتعلق الأمر بالطعام والدواء" فإننا نَمُرُّ بظروف معيشية غاية في الصعوبة بشكل استثنائي". "ويردف قائلا" لطالما كان هذا البلد يرزح تحت وطأة العقوبات ولكننا كنا نتدبر أمرنا". لكن ترامب سدّ الثغرات."
لَقَدْ رَزَحَتْ كوبا تَحْتَ وَطْأَةِ العُقُوباتِ لِرَدْحٍ من الزَّمَانِ أَطْوَلَ من أَي بَلَدٍ آخَرَ فِي التَّارِيخِ الحَدِيثِ. وَلَكِنْ مُنْذُ عَقْدٍ مضَى مِنَ الزَّمَانِ، قَامَتْ إِدَارَةُ أوباما بِالتَّخْفِيفِ من وَطْأَةِ العُقُوبَاتِ المَفْرُوضَةِ عَلَى الجَزِيرَةِ، وَأَعَادَتِ العَلَاقَاتِ الدِّبْلُومَاسِيَّةِ مَعَ هَاڤانَا، مُعْتَرِفَةً بِأَنَّ فَرْضَ العُقُوبَاتِ وَإِفْقَارَ الجَزِيرَةِ لِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ لَمْ يَنْجَحْ فِي الإِطَاحَةِ بِالحُكُومَةِ الشُّيُوعِيَّةِ. وَكَانَ التَّعَافِي الاقْتِصَادِيُّ سَرِيعًا. وَلَكِنْ فِي الأَسَابِيعِ الأَخِيرَةِ من إِدَارَةِ ترامب، أَعَادَ البَيْتُ الأَبْيَضُ وَضْعَ كوبا عَلَى القَائِمَةِ الَّتِي تَضَعُهَا وِزَارَةُ الخَارِجِيَّةِ وَالخَاصَّةِ بِالدُّوَلِ الرَّاعِيَةِ لِلإِرْهَابِ، سَوِيًّا مَعَ كُلٍّ من إِيرَانَ وَسُورِيَا وَكوريا الشمالِية لِأسباب سِيَاسِيَّةٍ صِرْفَةٍ وَبِدُونِ تَقْدِيمِ أَيِّ أَدِلَّةٍ.
وَتَوَقَّعَ المُرَاقِبُونَ لِلْوَضْعِ فِي كوبا أَنْ يَسْتَعِيدَ بايدن مَجْمُوعَةَ الإِنْجَازَاتِ الَّتِي حَقَّقَهَا أوباما. وَعَلَى كُلِّ الأَحْوَالِ، فَقَدْ وَعَدَ بايدن أَثْنَاءَ حَمْلَتِهِ الاِنْتِخَابِيَّةِ عَامَ 2020 بِأَنَّهُ فِي حَالِ انْتُخِبَ رَئِيسًا "سَوْفَ يَعْمَلُ عَلَى عَكْسِ سِيَاسَاتِ ترامب الَّتِي أَلْحَقَتِ الضَّرَرَ بِالكُوبِيِّين وَعَائِلَاتِهِمْ."
ولكن عوضَا عن ذلك تفوق بايدن على ترامب بالتغول أكثر من الإدارة السابقة في مهاجمة صناعة السياحة في كوبا وهي المحرك الأساسي لاقتصاد الجزيرة. وبناء عليه، منعت وزارة الخارجية في عهد بايدن منذ عامين الأجانب الذين يزورون كوبا من السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بدون تأشيرة. وهذا يعني أن الأشخاص من المملكة المتحدة وفرنسا وإسبانيا و37 دولة أخرى اكتشفوا أن مجرد قضاء عطلة في كوبا قد يؤدي إلى فقدانهم الإعفاء من التأشيرة، وقرر الكثيرون عدم المخاطرة بزيارة الجزيرة. ولذلك وعلى عكس بقية دول الكاريبي، لم تنتعش السياحة في كوبا منذ الجائحة. وانخفضت معدلات السفر من أوروبا إلى الجزيرة إلى نصف ما كانت عليه قبل الجائحة.
وقد أدي تصنيف الجزيرة كدولة راعية للإرهاب سويًا مع أكثر من مائتي 200 نوع آخر من العقوبات التي فُرضت على الجزيرة منذ عهد أوباما إلى إضعاف الاقتصاد الكوبي بحرمان الدولة الكوبية المتعثرة أصلا من الإيرادات. وَيُقَدِّرُ الاقْتِصَادِيُّونَ أَنَّ حَجْمَ الخَسَائِرِ فِي عَائِدَاتِ السِّيَاحَةِ النَّاجِمَةِ عَنْ تَصْنِيفِ الدَّوْلَةِ كَدَوْلَةٍ رَاعِيَةٍ لِلإِرْهَابِ يُكَلِّفُ الدَّوْلَةَ مِئَاتِ المَلايِينِ مِنَ الدُّولَارَاتِ سَنَوِيًّا. وطبقا لآرائهم فإن التكلفة الإجمالية لعقوبات عهدي كلا من الرئيس بايدن والرئيس ترامب تقدر بمليارات الدولارات سنويًا.
ولكن الخسائر البشرية بالنسبة لشخص مثل مونتاجودو وملايين آخرين مثله لا تحصى ولا تقدر بثمن. وقد تم تشخيص حالة مدرس التاريخ المتقاعد آنف الذكر منذ ثلاث سنوات بأنه مصاب بمرض باركنسون. ولا يزال يحصل على وصفات العلاج الطبية - حيث تتميز كوبا بأن لديها عدد كبير من الأطباء مقارنة بتعداد السكان أكثر من أي دولة أخرى في العالم- ولكن لا يوجد دواء. فقد نفذ مخزون الدواء أيضَا، مثل كل الأشياء الأخرى. "فيما مضى كان بإمكانك الذَّهَاب إلى الصيدلية، لتجد الدواء متوافرًا، أَمَّا الآن… "، يعض على شفتيه ويهز كتفيه.
لقد أدت الضربة المزدوجة المتمثلة في العقوبات المشددة والجائحة إلى ظهور واقع قاتم جديد بالنسبة للكوبيين. حيث قد يستمر انقطاع الكهرباء عن الكثيرين لمدة تتخطى 12 الاثني عُشُرٌ ساعة في اليوم الواحد. وبنفاذ المخزون على أَرْفُف الصيدليات ارتفع سعر الدواء في السوق السوداء إلى النجوم بعيدَا عن متناول معظم السكان. وبدون وجود المال لإصلاح البُنًى التحتية القديمة يعيش مئات الألوف الآن بدون مياه جارية. وأسوأ ما في الأمر، أن الأحوال ظلت على هذا السوء لعقود حتى فقد الناس الأمل.
وقد نجم عن العقوبات المفروضة في عهدي ترامب - بايدن، خفض مستويات معيشة الناس وسحق حلمهم بغد أفضل، مما أدى إلى هجرة جماعية من الجزيرة غير مسبوقة تاريخيَا. حيث غادر على مدى السنوات الثلاث الماضية عددَا قياسيًا غير مسبوق في السجلات من الكوبيين البلاد. ووفقًا للإحصاءات الرسمية، فإن 10% من السكان - أكثر من مليون شخص - غادروا البلاد ما بين عامي 2022 و2023.
وعلى الرغم من هذا، لم تمنع أي من إدارة ترامب أو إدارة بايدن الشركات الأمريكية من بيع أدوية مرض باركنسون إلى كوبا. حتى إن العقوبات المفروضة على كوبا تسمح رسميًا بوجود "استثناءات وتصاريح تتعلق بصادرات الغذاء [و] الدواء." وفي عام 2022، قدمت وزارة الخزانة في إدارة بايدن "تراخيص عامة" للبضائع الأساسية لدعم وإنقاذ الحياة في كوبا، بدافع أن "توفير المساعدات الإنسانية لتخفيف وطأة معاناة السكان من الضُّعَفَاءِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ أمرًا أساسيًا في قيمنا الأمريكية".
ولكن تظل الحرب الاقتصادية هي السلاح الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية. وتتضمن ترسانة أسلحة السياسة الخارجية، كما أوضح تحقيق صحفي استقصائي شامل في صحيفة واشنطن بوست مؤخرًا، بعيدًا عن التصريحات والمؤتمرات الصحفية والعناوين الرئيسية، عودة الإدارتين إلى سياسات تغيير النظام القائم بالحد من توافر تدفق العملة الصعبة إلى خزائن الجزيرة وزيادة معاناة الناس من أمثال مونتاجودو.
وصرحت جوي جوردون، الخبيرة في موضوع العقوبات في جامعة لويولا بشيكاغو ومؤلفة كتاب " الحرب الخفية: الولايات المتحدة والعقوبات المفروضة على العراق" لموقع دروب سايت نيوز، إن هناك تحولًا نحو تقليل الضرر الملموس الذي يلحق بالسكان المدنيين منذ فرض العقوبات على العراق في التسعينيات، والتي أدت إلى انتشار سوء التغذية والأوبئة على نطاق واسع. قائلة إن: "هناك استراتيجية لمحاولة نقل تبعات تنفيذ العقوبات من أعباء على كاهل القطاع الخاص". خلقت سياسات الولايات المتحدة الأمريكية ظروفًا تجعل من انسحاب القطاع الخاص من أسواق الجملة تحديًا تجاريًا، يتسبب في أضرار اقتصادية شديدة وواسعة النطاق ولكن بطريقة لا تعزى مباشرة إلى الساسة وصناع القرار الأمريكي.
ويعد قانون هيلمز-بيرتون مثال جيد على ما سبق. ففي عام 2019، طبّق ترامب المادة الثالثة من القانون والتي تسمح للأمريكيين بمقاضاة الشركات التي تتعامل مع كوبا، وهي المادة التي تنازل عنها كل الرؤساء السابقين. ومنذ ذلك الحين تمت مقاضاة شركات سفن الرِّحْلات البحرية التي كانت تنقل السياح الأمريكيين إلى هاڤانا خلال سنوات حكم أوباما بمطالبات بمئات الملايين من الدولارات في محكمة فلوريدا الفيدرالية لرسوها في ميناء هاڤانا الرئيسي. وكان الأثر المترتب على ذلك هو منع وردع الشركات متعددة الجنسيات من الاستثمار في الجزيرة.
ولعل أفضل مثال على العقوبات غير المرئية ولكنها الأكثر شراسة وضررًا، هي عقوبة تصنيف كوبا "كدولة راعية للإرهاب". حيث تم تقديمها على أنها أداة سياسية حميدة لجعل العالم مكانًا أكثر أمنًا وليس ذراعًا للحرب الاقتصادية، إلا أنها لطخت سمعة "كوبا" في الاقتصاد العالمي أكثر من أي وقت مضى. ووفقًا لدبلوماسيين ورجال أعمال في الجزيرة تحولت الأمور بين عشية وضحاها تقريبًا من جرّاءِ هذه الوصمة، ودفعت كلاً من البنوك العالمية والمصدرين الحيويين للانسحاب من السوق الكوبية.
وصرح رجل أعمال أوروبي مركز أعماله في هاڤانا، لموقع دروب سايت نيوز بشرط عدم الإفصاح عن هويته قائلا أن" عدد ضئيل جدًا من البنوك يرغب في التعامل مع كوبا الآن". وأضاف قائلا أن البنك الذي يتعامل معه أخبره بأنه سوف يتم إغلاق حسابه بعد أيام فقط من توصيف كوبا بهذا الوصف.
وقد كانت الجزيرة سابقًا، مدرجة على قائمة الإرهاب حتى عام 2015. ولكن التبعات كانت أكثر ضراوةً منذ إعادة إدراجها عام 2021. فقد تم تشديد إجراءات مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال على مدار العقد الماضي. وقد ازدادت أيضا عمليات "الامتثال المفرط" من جانب البنوك لهذه القواعد في محاولة لتجنب غرامات تقدر بعدة مليارات من الدولارات صادرة من وزارة الخزانة متزايدة السطوة.
وترتب على إجبار الشركات متعددة الجنسيات من وقف التعامل التجاري مع الجزيرة إلى تقليص عدد الموردين التي تستطيع الدولة الاستيراد منهم. وترتب كذلك على إجبار البنوك على إيقاف إجراء المعاملات المالية من وإلى الجزيرة، إنه في أغلب الأحوال حتى حينما تدبر الدولة الأموال اللازِمَةُ للشراء وتعثر على مورد يقبل البيع، فإنه لا توجد ببساطة وسيلة للقيام بالمدفوعات.
وذكر رجل أعمال غربي آخر مركز أعماله في هاڤانا" أن تطبيق العقوبات قد عهد به الآن إلى البنوك التي تَغَوَّلَت في محاسبة الذات". فَهُم "لا يستطيعون الادعاء بأنهم لا يعرفون بعد الآن."
ومع زيادة المخاطر وانخفاض العوائد والمردود، غادر عديد من الموردين السوق الكوبية. "إنها دولة صغيرة تتأخر في الدفع. "لن يتأثر السوق بها كثيرًا." أضاف رجل أعمال أوروبي ثالث امتنع عن بيع الأجهزة التقنية المتقدمة لوزارة الصحة العامة الكوبية وأضاف قائلا، "لطالما كان عقد المعاملات التجارية مع كوبا ينطوي على مخاطر مرتفعة"، ولكن توصيفها بوصفها دولة راعية للإرهاب أحدث تغييرًا شاملاً في قواعد اللعبة: فالآن "إذا وجدت آثار لحساب كوبي فسوف يتم إيقاف الحساب."
وحين سألناه عن سبب إيقاف شركات المُعِدَّات الطبية وشركات الأدوية معاملاتها التجارية مع كوبا خلال السنوات القليلة الماضية، لخص مؤسس أحد الشركات الصيدلانية متوسطة الحجم الأوروبية الأمر على النحو التالي: "إنه سوق صغير فلماذا تغرق قارب الصيد من أجل سمكة صغيرة."
وأضاف المصدر قائلا لم يعد الأمر "مجديًا" بالنسبة لشركته للتوريد لوزارة الصحة العامة الكوبية، ولكنهم لا يزالون يقومون بهذا على أية حال. وأضاف قائلا "كيف يمكنك رؤية هذا، ولا تتعاطف معهم؟". وقد تحدث رجل الأعمال بشرط عدم الإفصاح عن هويته، خوفا من أن يتعرض الحساب البنكي لشركته للإغلاق، إذا ما عرفت المؤسسات المالية الأوروبية التي تتعامل معها شركته مصرفيًا بأنهم يوردون لكوبا.
يدفع المناصرون لإدارة بايدن بأن الصعوبات الاقتصادية التي تجابهها كوبا تتخطى الإجراءات العقابية. وهم محقون. فقد أخفقت الإجراءات التي قام بها الحزب الشيوعي الحاكم من البَدْء في - أو إيقاف برامج الإصلاح الاقتصادي من تحسين إنتاجية القطاع العام الذي لا يزال شديد المركزية والسطوة. فالأجور في الوظائف الحكومية مزرية وتزداد سوءًا. وتفشت ظاهرة التغيب عن العمل. ولكن يجدر بالذكر أن الإشارة إلى عدة أسباب لمشاكل الجزيرة الاقتصادية لا يعفى العقوبات من كونها أحد هذه الأسباب.
وصرح ويليام ليوغراند، وهو عالم في العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية أن تصنيف الدولة بوصفها دولة راعية للإرهاب يعد بمثابة "جبهة كاملة في الحرب الاقتصادية التي تشنها واشنطن على كوبا." وذكر أن إحدى النتائج المباشرة من جرّاءِ التصنيف كدولة راعية للإرهاب وغيرها من العقوبات التي تم فرضها خلال عهدي ترامب-بايدن، أن الدولة الكوبية اليوم تخسر مليارات الدولارات من الإيرادات والعوائد كل عام في الوقت الذي تمثل فيه واردات الوقود والطعام الجزء الرئيسي من وارداتها. وأضاف قائلا" للعقوبات اليوم أثر أشد وطأة على الشعب الكوبي عن ما شهدته كوبا سابقا على الإطلاق."
حيث بدأ الدعم الغذائي العيني الحكومي في التلاشي، وهو شريان حياة لفقراء البلاد. وقد انهارت الزراعة المحلية، التي لطالما كانت ضعيفة، في السنوات الأخيرة بسبب نقص البذور والأسمدة والبنزين، مما اضطر الدولة إلى استيراد 100% من السلع الأساسية المدعومة.
ولكن لا يوجد ما يكفي من المال للقيام بهذا. وألغت الحكومة، العام الماضي، الدجاج من قائمة المواد الغذائية الأساسية المدعمة التي يحصل عليها معظم البالغين. وتم، الشهر الماضي، تخفيض الحصة اليومية من الخبز المقدمة لجميع الكوبيين بمقدار الربع. حتى المواد الأساسية الحيوية مثل الأرز والفاصوليا تصل الآن متأخرة. وطبقا لتقرير حديث صادر من مفوضية الدول الأمريكية لحقوق الإنسان، فأن معدلات انعدام الأمن الغذائي على الجزيرة آخذة في الارتفاع. وكانت الفئات الأكثر ضعفًا مثل - كبار السن والنساء الحوامل والأطفال والمصابين بأمراض مزمنة- هي الأكثر تضررًا من الآثار السلبية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية.
وأضاف البروفيسور بجامعة لويولا قائلا "حينما تقوم الدولة بتمويل الدعم الغذائي، فلا غَرْوَ أنك إذا أفلست الدولة، سترتفع معدلات انعدام الأمن الغذائي، وخصوصا بالنسبة لأولئك الذين ليس لديهم أقارب خارج البلاد لإرسال مساعدات مالية لهم".
وفي مارس/آذار، حصلت الولايات المتحدة. على شواهد على حدوث التوترات التي تستهدفها سياستها، بنزول مئات الأفراد إلى الشوارع في مدينة سانتياغو الشرقية منددين بانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، هاتفين: "نحن جائعون"
ويتجه معظم الكوبيين الفارين من هذا الجحيم إلى الولايات المتحدة الأمريكية. حيث هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مئة ألف شخص 100,000 بطريقة شرعية منذ يناير/كانون الثاني 2023 عبر "برنامَج السماح الإنساني" التابع لإدارة بايدن بينما عبر عديد آخرون الحدود بطريقة غير شرعية. ويوجد تشريع منذ حِقْبَة الحرب الباردة، قانون التعديل الكوبي لعام 1966، الذي يجعل كوبا البلد الوحيد الذي يمكن للمهاجرين الوصول منه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بطريقة غير شرعية ويحصلون على بطاقة الإقامة الدائمة "جرين كارد" بعد عام ويوم واحد من وصولهم. ووفقا للمنظمة الدولية للهجرة، يقوم بعض الكوبيين ببناء قوارب خشبية متهالكة، وقد توفى نحو 140 شخص كوبي هذا العام خلال محاولتهم العبور إلى مضيق فلوريدا. بينما بالنسبة للأشخاص الذين لديهم أقارب يستطيعون مساعدتهم في دفع تَذْكَرَة السفر جوًا ، يطيرون إلى دولة نيكاراجوا قبل أن يبدؤوا في سلك الدرب الصعب والشائك إلى الحدود الأمريكية المكسيكية.
وبالإبقاء على سريان إدراج الدولة في قائمة الدول الراعية للإرهاب والعقوبات الأخرى، فقد أشعلت إدارة بايدن موجة الهجرة الحالية بأعدادها القياسية غير المسبوقة. وطبقا لأرقام وتقارير وكالة حرس الحدود والجمارك، فقد وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الثلاث الماضية، أكثر من نصف مليون كوبي. وتتسم هذه الديناميكية كلها بالجنون: فالهجرة الجماعية غير المسبوقة التي أججتها إدارة بايدن، تلعب دورا هامًا على الحدود في "أزمة الحدود" والتي تدعم ترامب مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
لطالما ظلت قائمة الدول الراعية للإرهاب على الحدود الفاصلة بين التحليل والدعاية. ومهما بلغ مدى سوء السجلات التاريخية لبعض الدول، إلا أن الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية لا تدرج في تلك القائمة أبدًا.
صنفت إدارة ريغان كوبا كدولة راعية للإرهاب، أول مرة عام 1982. وقد استاءت هاڤانا من القرار نظراً لتاريخ الولايات المتحدة في دعم الهجمات الإرهابية على الجزيرة والتغاضي عنها، لا سيما "عملية النمس ""مونجووسMongoose" وهي عملية سرية ضربت أهدافاً مدنية داخل كوبا خلال الستينيات، والمعرفة المسبقة بخطط لكوبيين في المنفى دربتهم وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي\آي_إيه_ CIA" لتفجير طائرة مدنية كوبية في عام 1976، والتي قررت واشنطن عدم إطلاع هاڤانا عليها، والتي أسفرت عن مقتل 73 رجلاً وامرأة وطفلاً كانوا على متنها.
ومع ذلك، كانت كوبا، خلال الثمانينات 1980-1989، تدعم حركات الكفاح والتحرير الوطني في دول أمريكا الوسطى وأفريقيا. وكانت حركة النضال الكوبي للحرية، تجسد الإرهاب بالنسبة لواشنطن، ولذا يعد تصنيف الدولة كدولة راعية للإرهاب منطقيا بمنطق الحرب الباردة. وفي الواقع، وفي بعض الأحيان، كانت الجماعات التي تدعمها هاڤانا تنفذ عمليات عنف سياسي ضد المدنيين ويمكن تعريف هذا باسم إرهاب، طبقا لوجهة نظرك السياسية في تعريف الإرهاب. وهكذا تمكنت وكالات الاستخبارات الأمريكية من تجميع الحجج القائمة على المعلومات لتأييد الإدراج في القائمة. ولكن مع تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب البادرة، سقطت كوبا في أزمة اقتصادية حادة داخليًا، وتضاءلت عمليات استعراض قوتها. وولت أيام دعم حركات التحرر والنضال في الخارج منذ القرن العشرين، إلا أن تصنيف الدولة كدولة راعية للإرهاب لا يزال قائمًا.
وَطِبْقًا لِمَسْؤُولِينَ سَابِقِينَ فِي أَجْهِزَةِ المُخَابَرَاتِ وَفِي وَزَارَةِ الخَارِجِيَّةِ، فَإِنَّهُ عَلَى مَدَارِ العُقُودِ الثَّلَاثَةِ المَاضِيَةِ، كَانَ تَقْيِيمُ وَكَالَاتِ الاِسْتِخْبَارَاتِ الأَمْرِيكِيَّةِ أَنَّ الجَزِيرَةَ لَمْ تَدْعَمْ مَا تَعُدُّهُ، أَوْ حَتَّى قَدْ تُصَنِّفُهُ الوِلَايَاتُ المُتَّحِدَةُ الأَمْرِيكِيَّةُ كَإِرْهَابٍ منذ تسعينيات القرن الماضي.
وعندما رفع أوباما اسم الجزيرة من القائمة في عام 2015، غرّد بن رودس، المسؤول عن ملف كوبا في الإدارة الأمريكية على تويتر: "ببساطة، يتصرف الرئيس الأمريكي ببساطة لرفع اسم #كوبا من قائمة الدول الراعية للإرهاب لأن كوبا ليست دولة راعية للإرهاب."
ولإعادة إدراج الجزيرة على القائمة، احتاجت إدارة ترامب لأسباب منطقية لفعل ذلك. واحتجت بأن كوبا توفر مَلاذات آمنة للفارين من العدالة في الولايات المتحدة الأمريكية ولقادة جيش التحرير الوطني الكولومبي " Ejercito de Liberación Nacional, أو ELN"
وبالنسبة للفارين،" كبار السن"، من العدالة في الولايات المتحدة فغالبيتهم من النشطاء في حركات تحرر السود والذين منحتهم كوبا اللجوء السياسي في حقبتي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وتقوم الجهات الأمنية الحكومية في كوبا بمتابعتهم، ولا توجد أي أدلة على أنهم استخدموا الأراضي الكوبية لدعم أي أنشطة إرهابية أو القيام بأي أنشطة إرهابية.
وفي نفس ذاك الوقت، تم منح ملاذ آمن لقادة "إي_إل_إن_ELN" "جيش التحرير الوطني الكولومبي" كجزء من صفقة محادثات سلام حثت إدارة أوباما هاڤانا على استضافتها.
وقد توسط في المحادثات كل من كوبا والنرويج (إلا أن النرويج هربت بطريقة ما، من التصنيف كدولة راعية للإرهاب والإدراج في قائمة الدول الراعية للإرهاب على الرغم من دورها). وعلى الرغم من توصل الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية " Fuerzas Armadas Revolucionarias de Colombia, أو المعروفة اختصارًا باسم FARC"، وهي ثاني أقوى جماعات حرب عصابات مسلحة في البلاد، إلى اتفاق سلام تاريخي عام 2016 بمساعدة هاڤانا، إلا أن السلام بين الحكومة الكولومبية و "إي_إل_إن_ELN" جيش التحرير الوطني الكولومبي لايزال بعيد المنال.
وقام جيش التحرير الوطني الكولومبي عام 2019 بتنفيذ هجوم قاتل على أكاديمية للشرطة في بوجوتا، كولومبيا، مما أسفر عن مقتل 22 شخصًا. وقد تقدمت الحكومة الكولومبية بالعديد من المطالبات لدولة كوبا لترحيل وتسليم قادة جيش التحرير الوطني الكولومبي "إي_إل_إن_ELN" ولكن كوبا تجاهلت تلك المطالبات.
ولكن في عام 2016، وقّع جيش التحرير الوطني والحكومة الكولومبية على بروتوكول سري يضمن سلامة مفاوضي جيش التحرير الوطني في هاڤانا "في حالة انهيار محادثات السلام" وتوضح الوثيقة التي وقّع عليها الوفد الكوبي أن الترحيل و التسليم لن يكون مطروحًا على الطاولة، وأن المفاوضين سيتمكنون من العودة إلى أجزاء من الأراضي الكولومبية التي يعدونها آمنة.
وعلاوةً على ذلك، سحب الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو - وقد كان هو نفسه رجل حرب عصابات سابق - طلب التسليم في عام 2022 ووصف إدراج كوبا في القائمة بأنه "ظلم".
وقد استؤنفت محادثات السلام، العام الماضي، بين الحكومة الكولومبية وجيش التحرير الوطني الكولومبي، وهو جماعة حرب العصابات المسلحة الوحيدة الباقية في البلاد. وقد أعلن الطرفان، منذ ذلك الحين، هدنة بين الطرفين.
وقال فولتن أرمسترونغ، الذي شغل سابقًا منصب ضابط رفيع المستوى، مسؤول عن دول أمريكا اللاتينية في وكالة المخابرات الأمريكية، أنه إذا كانت كوبا قامت بترحيل وتسليم مفاوضي جيش التحرير الوطني الكولومبي ELN، كانت سوف تقلص قدرتها على تهدئة الحروب الدموية في كولومبيا.
وقال: "ليست المسألة، مسألة التعامل بلطف مع مقاتلي حروب العصابات السابقين". "بل هي مسألة مصداقية."
ومنذ الشهور الأولى له في المنصب، صرح فريق إدارة بايدن مرارًا وتكرارًا - في تصريحات علنية وفي جلسات مغلقة لأعضاء الكونجرس- إنه يجري مراجعات شاملة للسياسة تجاه كوبا، وتتضمن تصنيفها بوصفها دولة راعية للإرهاب.
وصرح وزير الخارجية السيد أنتوني بلينكن، عام 2022 بأن الإدارة "ستواصل كما تقتضي الحاجة، في مراجعة تلك الإجراءات لمعرفة ما إذا كانت كوبا لا تزال تستحق هذا التصنيف".
ولكن اتضح العام الماضي، إن هذا تصريح أجوف. وفي اجتماع مغلق، طبقًا لمصادر من داخل الاجتماع، صرح مسؤول في وزارة الخارجية لأعضاء الكونجرس، إنه لم يتم البَدْء أبدًا في أي إجراءات مراجعة.
كان الاجتماع، الذي استضافه النائب من الحزب الديمقراطي، جيم ماكغوفرن، عن ولاية ماساتشوستس، وآخرون ممن يركزون على السياسة تجاه كوبا، جزءًا من جهود لدفع الإدارة الأمريكية إلى التراجع عن نهجها العقابي تجاه كوبا. وطبقا لمصادر ضالعة في هذه الجهود، فإن جيم ماكغوفرن وحلفاءه في الكونجرس اعتقدوا، أن إعطاء إدارة بايدن مساحة للمناورة، وتقليل الضغط على البيت الأبيض، سيدفعهم لاتخاذ القرار الصحيح. خاصة بعد أن تم إثبات أن تلك الحسابات كانت خاطئة، وأن الوقت قد نفذ الآن من وزارة الخارجية.
وقامت إدارة بايدن بإغلاق الحوار عن فعالية وأثر الإدراج على قائمة الدول الراعية للإرهاب، عبر الإدلاء بتصريحات رتيبة منمقة عن العمليات" البيروقراطية للصحفيين والتي يصعب استخدامها في مقالات صحفية استقصائية،(على عكس التصريحات اللاذعة واللحظية لحملة "الضغط بأقصى قدر" على الجزيرة التي استخدمتها إدارة الرئيس ترامب).
وقد أخفق الصحفيون في مسائلة وتحميل الإدارة مسؤولياتها. حتى مع افتراض حسن النية، فأن تتبع آثار محددة للعقوبات على شعب ما أمر صعب: حيث إن التداخل في الصعوبات الاقتصادية الداخلية لكوبا والاستراتيچيات المتضافر لتضييق الخناق الخارجي على الجزيرة يجعل من المستحيل تحديد أي وجه قصور محدد ناجم عن أي سياسة بعينها.
فضلًا عن ذلك، فإن استراتيجية إسناد سياسة العقوبات إلى القطاع الخاص التي استمرت لعقود من الزمن، أدت أيضًا إلى تقليص نشر آثار العقوبات في الصحافة. حيث تفضل وسائل الإعلام، الأخبار و قصص السبق الصحفي السلسة الصادرة من مصادر مباشرة التي يمكن شرحها بسرعة للجمهور، إلا أن العثور على شركات ومصادر ترغب في التحدث عن كيفية وأسباب توقفها عن التعامل التجاري والاستثمار في الجزيرة أمر شاق.
بالنسبة لأرمسترونغ، ضابط المخابرات السابق، فإن الحديث عن "عملية المراجعة" كان دائمًا مجرد خدعة. وكما قال، فأن كل ما كان مطلوب على المستوى التنفيذي، هو استدعاء وكالات المخابرات الأمريكية، وسؤالهم هل يوجد أي سبب مؤيد بالأدلة لإلغاء إعادة إدراج كوبا على قائمة الدول الراعية للإرهاب. وأضاف قائلا حينها "كان الأمر سيستغرق نصف يوم فقط".
ويتفق المحللون السياسيون على إنه إذا توافرت الإرادة السياسية، لكان تم رفع اسم كوبا من قائمة الدول الراعية للإرهاب في غضون أسابيع من حفل تنصيب الرئيس بايدن عام 2021. وقد قام أكثر من 80 عضو في مجلس النواب من الحزب الديموقراطي بإرسال خطابات إلى الرئيس بايدن للقيام بذلك خلال أسابيع من تنصيبه. حتى لو كانت الإدارة قامت بالبدء في تنفيذ مراجعة تستغرق ست أشهر كما ينص القانون، طبقا لدفوع بعض الأشخاص، كان من المفترض أن يتم إلغاء هذا التصنيف في منتصف العام الأول من فترة تولي الرئيس بايدن لمنصبه. وإذا كان البيت الأبيض قام بتنفيذ هذا الأمر، لكان مئات الآلاف من الكوبيين يعيشون اليوم في منازلهم مع أسرهم واِحبتهم، حياة بإمكانات أفضل للحصول على الغذاء والدواء، بدلاً من شق طريقهم إلى الحدود ومحاربة نظام الهجرة البيزنطي، في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أصبح موقف إدارة بايدن أكثر تعقيدًا في مايو/أيار عندما قامت برفع كوبا من قائمة الدول التي لا "تتعاون بشكل كامل" مع الولايات المتحدة، في مكافحة الإرهاب. ووفقًا للتصنيفات الرسمية، فإن كوبا الآن "تتعاون بشكل كامل" مع جهود مكافحة الإرهاب، وفي الوقت نفسه "ترعى" الإرهاب. ولا يوجد تفسير لكيفية قيام نفس ذات البلد بكلا الأمرين في نفس ذات الوقت. وقد صرح المتحدث الرسمي مات ميللر لموقع دروب سايت نيوز في مؤتمر صحفي، حين سُئِلَ عن سبب عدم بَدْء وزارة الخارجية في إجراء المراجعة، بأن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية موجهة لدعم ورفع" الآمال والطموح الديموقراطي لدى الشعب الكوبي" وهي إشارة واضحة لهدف الولايات المتحدة الأمريكية، في الإطاحة بالنظام.
وأضاف قائلا: "إذا كان هناك أي إِلْغَاءُ لتصنيف وضع الدولة كدولة راعية للإرهاب، فيجب أن يكون ذلك متسقًا مع المعايير القانونية المحددة لإلغاء هذا القرار". أي مراجعة لحالة إدراج كوبا على القائمة، إذا ما تم إجراء مراجعة، ستكون طبقًا للقانون وللشروط التي حددها الكونجرس (مجلس النواب)، لكن السيد الرئيس والسيد الوزير أنتوني بلينكن سيظلان ملتزمان بالسياسات التي سبق وتقدمنا بها والتي ستدعم الآمال والطموح الديموقراطي للشعب الكوبي."
وهناك عديد من الطرق غير المباشرة لوصف وسائل وأساليب تطبيق العقوبات. في أبريل 1960، وبينما كان المخططون في واشنطن يعملون على تحديد كيفية التعامل مع الحكومة الثورية الجديدة، كتب مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأمريكية مذكرة سيئة السمعة الآن، والتي تعطي نَظْرَةٌ ثاقبة على الأساس المنطقي وراء الحرب الاقتصادية الجارية الآن. وقال ليستر د. مالوري، نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون نصف الكرة الغربي آنذاك، "ينبغي اتخاذ كل الوسائل الممكنة لإضعاف الحياة الاقتصادية في كوبا على الفور". وأضاف قائلاً: "على أن يتم ذلك ببراعة مذهلة وألا يكون واضحًا قدر الإمكان"، بحيث تحقق سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، "أكبر توغل في حرمان كوبا من الموارد المالية والواردات، لخفض الأجور المالية والعينية، لإفشاء الجوع، وإفشاء الإحباط، والإطاحة بنظام الحكم." وقد رفض الرئيس بايدن التخلي عن هذا المنطق، فيما يتعلق بكوبا. وهذا هو الإرث السياسي الذي سيخلفه.