Economy

إعادة تنظيم الإنتاج لخدمة الحياة بدلاً من الربح.

يدافع جيسون هيكل عن تنمية الجنوب العالمي من خلال السيادة الاقتصادية والاشتراكية البيئية، رافضًا الرأسمالية الاستخراجية لمواجهه أزمات المناخ وعدم المساواة.
في محاضرة البرنامج العالمي للبحث في مسألة عدم المساواة (GRIP) السنوية لعام 2025، انتقد جيسون هيكل نماذج التنمية السائدة، بحجة أن سيادة الجنوب العالمي تتطلب الانفصال عن الرأسمالية الاستخراجية عن طريق التحولات الاشتراكية البيئية. في مناقشة المتابعة هذه، يؤكد أن قانون القيمة الرأسمالي هو أساس الأزمات البيئية والاجتماعية، مؤيدًا التمويل الديمقراطي والرقابة العامة على الإنتاج.

في الخامس عشر من مايو 2025، قدّم جيسون هيكل، عالم الأنثروبولوجيا الاقتصادية والمنظّر في مجال تراجع النمو ومؤلف أعمال شهيرة مثل الأقلهوالأكثر (Less is More)، محاضرةعلميةمثيرةللجدل، وذلك ضمن فعاليات المحاضرة السنوية الثالثة للبرنامج العالمي للبحث في مسألة عدم المساواة في جامعة بيرغن، برعاية مكتب بروكسل التابع لمؤسسة روزا لوكسمبورغ. وفي عرضه التقديمي عن "النضال من أجل التنمية في القرن الحادي والعشرين"، هدم هيكل فكرة أن تنمية الجنوب العالمي يمكن أن تتم ضمن منطق الرأسمالية الاستخراجية والإمبريالية الاقتصادية. وبدلاً من ذلك، وضح بأنه فقط من خلال الحركات من أجل السيادة الاقتصادية والانتقال الاشتراكي البيئي يمكن الهروب من مصائد الاستغلال الاستعماري الجديد.

بعد المؤتمر، تحدث مع دون كالب وماريا ديفيكي ستيف وفيديريكو توماسوني حول استراتيجيات سياسية ملموسة في النضال من أجل المناخ وعدالة إعادة التوزيع، والتفكير في تناقضات الليبرالية والأزمات البيئية والاجتماعية للرأسمالية العالمية، وإمكانية وجود مستقبل اشتراكي ديمقراطي. في المناقشة، شارك هيكل وجهة نظره المتطورة حول النظرية الماركسية، وانتقد حدود السياسة الأفقية، وأكد على الحاجة الملحة لبناء مركبات سياسية جديدة قادرة على الاستجابة لحالة الطوارئ الكوكبية.

دون كالب: بالأمس، وضحت بأن من الضروري إعادة التفكير في الثورة الروسية وتاريخ الصين، ليس فقط من أجل السياسة الدولية، بل أيضًا من أجل سياسات الطبقة العاملة والحرية على مستوى العالم. لقد أدهشني أن روايتك قد تطورت إلى قراءة أكثر صراحة ومناهضة لليبرالية بالتاريخ المعاصر. لم يكن ذلك واضحا في كتاب الفجوة (The Divide)، لكنه كان واضحا في محاضرتك. هل اتجهت نحو تفسير أكثر ماركسية؟

نعم، أعتقد أن هذا منصف. هناك شيئان يحدثان. أولاً، لقد تطور تحليلي مع مرور الوقت. ثانيًا، عندما كتبت الفجوة (The Divide)، كنت أخاطب جمهورًا غير مألوف إلى حد كبير، وغالبًا ما يكون غير مرتاح للغة الماركسية أو الاشتراكية. وأردت أن أتواصل بفعالية مع الأشخاص العاملين في مجال التنمية الدولية، حيث إن العديد منهم يتوخون الحذر مما يعتبرونه تسميات أيديولوجية.

وكان لهذا القرار الاستراتيجي تكلفة: يتجاوز كتاب الفجوة (The Divide) إلى حد كبير مسألة الاشتراكية، على الرغم من أن العديد من البلاد التي أناقشها فيه كانت اشتراكية أو منخرطة في ثورات شيوعية. وهذا الغياب يضعف التحليل. فلا يمكنك أن تفهم بشكل كامل تاريخ عدم المساواة العالمية دون التطرق إلى محاولات الثورات الاشتراكية وحركة عدم الانحياز للانفصال عن الإمبريالية الرأسمالية وتنفيذ نماذج تنموية بديلة، تلاها رد الفعل الغربي العنيف الذي تمثل في الحرب الباردة.

ومنذ ذلك الحين، استخدمت بشكل متزايد مفاهيم مثل قانون القيمة الرأسمالي، والذي أراه الآن مركزيًا لشرح أزماتنا البيئية والاجتماعية. فنحن نعيش في عالم يتمتع بإمكانيات إنتاجية هائلة، ومع ذلك فإننا نواجه الحرمان والانهيار البيئي. لماذا؟ لأنه في ظل الرأسمالية، يحدث الإنتاج فقط عندما وأينما يكون مربحًا. وتأتي الاحتياجات الاجتماعية والبيئية في المرتبة الثانية مقارنة بعائدات رأس المال.

دون كالب: هذا بالضبط ما أدهشني. لقد قارنت عملك بعمل ديفيد جريبر. كلاكما يبدأ من الأنثروبولوجيا ويتوسع في السياسة، لكن الاختلاف الجوهري في رأيي هو أنك تفهم قانون القيمة، في حين أن جريبر، كونه فوضويًا (أناركي)، يميل إلى التهرب منه. فهل توافق على أن الظروف المعاصرة تجبرنا على استعادة المفاهيم الماركسية الأساسية وإيصالها إلى الجمهور الأصغر سنًا؟

بالتأكيد. كباحثين، يجب أن نستخدم أفضل الأدوات المتاحة لشرح الواقع المادي، وتظل المفاهيم الماركسية قوية من الناحية التحليلية. فنحن في مرحلة يمكن فيها إعادة تقديم هذه الأدوات ونشرها بطرق جديدة.

لقد كان ديفيد جريبر مفكرًا لامعًا ومبدعًا للغاية، وتعلمت الكثير منه، كصديق وباحث. لكنك على حق، فقد كان يتناول الاقتصاد السياسي من زاوية مغايرة.  في عمله اللاحق، وخاصة كتابفجركلشيء (The Dawn Of Everything)، بدأ في الاعتراف بقيود نماذج التنظيم الأناركية مثل الأفقية. لقد رأى ضرورة وجود هياكل هرمية وظيفية، تلك التي يمكنها بالفعل إنجاز الأشياء مع الحفاظ على مبادئ المساواة.

دون كالب: هذا يرتبط بسؤال آخر. لقد فشل اليسار الشعبوي في عام 2011 في توقع ما يمكن تسميته بثورة مضادة عالمية. وما نشهده الآن لا يقتصر فقط على عودة الفاشية، بل هو تمرد أوسع نطاقًا على الليبرالية والنيوليبرالية. بعض القوى مناهضة للتيارات التقدمية، والبعض الآخر مناهض للعولمة، ولا تشترك دائمًا في أيديولوجية متماسكة، لكن بعض القوى مناهضة لليبرالية وربما مناهضة للرأسمالية أيضًا. كيف يتفاعل عملك مع رد الفعل المعقد هذا؟

إنه أمر متناقض. من منظور ما، تبدو هذه أسوأ لحظة للحديث عن الاشتراكية. لكن من منظور آخر، إنها المرحلة المناسبة تحديدًا، لأن الليبرالية تنهار بشكل واضح، وصعود الشعبوية اليمينية المتطرفة هو أحد أعراض هذا الفشل.

تدعي الليبرالية أنها تدافع عن الحقوق العالمية والمساواة وحماية البيئة، لكنها تتشبث أيضًا بنموذج إنتاج يهيمن عليه رأس المال وتعظيم الأرباح. وفي كل مرة يصطدم فيها هذان الالتزامان، يختار القادة الليبراليون رأس المال، مما يجعل الجميع يرى نفاقهم. هذا هو السبب في أن الليبرالية تفقد الشرعية. ويكمن الخطر في أنه في ظل غياب بديل يساري مقنع، يتجه العمال الساخطين نحو السرديات اليمينية المتطرفة ونظريات المؤامرة المعادية للأجانب وجعل المهاجرين كبش فداء، وما إلى ذلك. ولا يقدم الفاشيون حلولًا حقيقية، لكنهم يملؤون الفراغ الذي خلفته الأحزاب الليبرالية وحتى الديمقراطية الاجتماعية، التي تخلت عن أي نقد هيكلي للرأسمالية.

نحن بحاجة إلى بديل اشتراكي ديمقراطي يعالج التناقضات الجذرية للرأسمالية، بما في ذلك اللاعقلانية البيئية. لكن بناء هذا البديل سيتطلب أدوات سياسية حقيقية، ليس فقط حركات الاحتجاج، ولكن أيضًا الأحزاب الجماهيرية ذات الجذور العميقة في الطبقة العاملة.

دون كالب: لنعد إلى فكرة قانون القيمة. لقد تطرقت إليها سابقًا، ولكن هل يمكنك أن تشرح لماذا هي ضرورية جدًا لفهم الأزمات التي نواجها اليوم؟

يفسر قانون القيمة سبب معاناتنا من نقص في السلع الأساسية اجتماعيًا وبيئيًا، حتى في عصر بلغت فيه القدرة الإنتاجية مستويات غير مسبوقة.  ففي ظل الرأسمالية، يُقرر الربح وحده اتجاه الإنتاج، بعيدًا عن حاجات الإنسان أو البيئة. إذا لم يكن هناك شيء مربح، فلن يتم صنعه، بغض النظر عن مدى ضرورته.

خذ على سبيل المثال التحول الأخضر. لدينا المعرفة والقوى العاملة والموارد اللازمة لبناء البنية التحتية للطاقة المتجددة بسرعة وتجديد المباني وتوسيع النقل العام. لكن هذه ليست استثمارات مربحة، لذا فإن رأس المال لا يمولها. وفي الوقت نفسه، نواصل إنتاج السلع الفاخرة والوقود الأحفوري والأسلحة، الأشياء التي تلحق اضرارًا فادحة بالناس والكوكب، لأنها مربحة. ويمثل هذا التناقض جوهر الانهيار البيئي الذي نعيشه اليوم. 

ومن المثير للسخرية أنه عندما يتحدث الناس عن النقص، غالبًا ما يشيرون إلى العالم الاشتراكي، متجاهلين العقوبات والحصارات التي واجهتها تلك الاقتصادات، رغم أن نتائجها الاجتماعية كانت أفضل من نظيراتها الرأسمالية. اليوم، تنتج الرأسمالية نفسها نقصًا مزمنًا، في الإسكان الميسر والرعاية الصحية والتعليم والتقنيات الخضراء. وهذه نتيجة مباشرة لقانون القيمة. ويجب علينا التغلب عليها إذا أردنا البقاء.

 فيديريكو توماسوني: هذا يقودني إلى أوروبا. لقد حاول الاتحاد الأوروبي دفع أجندة رأسمالية خضراء في السنوات الأخيرة، لكننا نشهد الآن تحولاً كبيرًا نحو التسلّح. واللافت للنظر أن هذه الأجندة يقودها من يصفون أنفسهم بالليبراليين. فعلى سبيل المثال، يتصدر ستارمر في المملكة المتحدة هذا التوجه. وينطبق الشيء نفسه على البرلمان الأوروبي. كيف تفسر هذا التطور؟

إنه تطور مقلق للغاية. لسنوات، أخبرنا القادة الأوروبيون أنه لا توجد أموال للاستثمار في خفض الانبعاثات الكربونية أو الخدمات العامة أو الحماية الاجتماعية، لأننا اضطررنا إلى دعم نسب العجز والدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لضمان استقرار الأسعار. ولكن فجأة، يتم التخلص من هذه القواعد عندما يتعلق الأمر بالتسلّح. إنهم مستعدون لإنفاق تريليونات على الأسلحة والدفاع.

وهذا يكشف عن شيء بالغ الأهمية: قواعد العجز لم تكن أبدًا متعلقة بالاقتصاد. لقد كانت أدوات سياسية تستخدم لمنع الاستثمار في الأهداف الاجتماعية والبيئية مع الحفاظ على ندرة مصطنعة في السلع العامة. والآن بعد أن أصبح الإنفاق العسكري مناسبًا ومربحًا سياسيًا، تختفي القيود. إنها خيانة للطبقة العاملة والأجيال القادمة.

علاوة على ذلك، فإن تحليلهم يعتليه العديد من القصور. يبدو أنهم يعتقدون أن التسلّح سيجلب السيادة والأمن إلى أوروبا، ولكن السيادة الحقيقية تتطلب إعادة التفكير بشكل كامل في الدور الجيوسياسي لأوروبا. وسيعني ذلك الابتعاد عن الولايات المتحدة والسعي إلى التكامل والتعاون السلمي مع بقية القارة الأوروبية الآسيوية، بما في ذلك الصين والجنوب العالمي. إلا أن النخب الأوروبية لا تزال أسيرة لمنطق الهيمنة الأمريكية. لقد عوملت أوروبا الغربية كقاعدة أمامية للاستراتيجية العسكرية الأمريكية لعقود. فعلى سبيل المثال، تمتلئ ألمانيا بالقواعد الأمريكية. وتريد الولايات المتحدة أن تستعدي أوروبا الشرق، ولكن هذا يصب في مصلحة الولايات المتحدة، وليس في مصلحة أوروبا. ويجب أن نرفض هذا. حيث تكمن مصالح أوروبا الحقيقية في السلام والتعاون مع جيرانها.

 فيديريكو توماسوني: هذا يمهد الطريق بشكل مثالي لسؤالي الثاني: العبء التاريخي للإمبريالية الأوروبية. لقد تسببت الطبقات الحاكمة في أوروبا في أضرار هائلة على مدى القرون القليلة الماضية. كيف يمكننا التحرر من ذلك الإرث؟ هل هناك تناقض حقيقي بين مصالح الطبقة العاملة الأوروبية ومصالح رأس المال عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية؟

إنه سؤال مهم. بدايةً، نعم، سياسات مثل الموجة الحالية من التسلّح تتماشى بوضوح مع مصالح رأس المال الأوروبي. ولهذا السبب تُنفذ هذه السياسات اليوم. لكنها تتعارض بشكل مباشر مع احتياجات الناس العاديين واستقرار الكوكب. ويكشف هذا عن حقيقة أعمق: هناك صراع جوهري بين مصالح الطبقة العاملة ومصالح رأس المال. إنه يجبرنا على مواجهة أسطورة الديمقراطية الأوروبية. قيل لنا إن أوروبا منارة للقيم الديمقراطية، ولكن في الواقع، تهيمن مصالح رأس المال على مؤسساتنا.

فالديمقراطية لم تكن أبدًا هدية من الطبقة الحاكمة، لقد ناضل من أجلها العمال. ومع ذلك، حصلنا فقط على نسخة سطحية منها. وتم التخلي عن المطالب الديمقراطية الأصلية مثل إزالة الطابع التجاري عن السلع الأساسية والديمقراطية في مكان العمل، والسيطرة على القطاع المالي. بدلاً من ذلك، نجري انتخابات كل بضع سنوات بين الأحزاب التي تخدم رأس المال، في بيئة إعلامية يهيمن عليها اصحاب المليارات. إذا أردنا ديمقراطية حقيقية، فنحن بحاجة إلى توسيعها لتشمل الاقتصاد. وهذا يعني التغلب على قانون القيمة الرأسمالي وإعادة توجيه الإنتاج نحو الاحتياجات الاجتماعية والبيئية. وهذا يعني ديمقراطية إصدار النقود.

دون كالب: لنستأنف النقاش حول هذه المسألة، النقود. من الجوانب الأكثر تميزًا في عملك هو تركيزك على عملية إصدار النقود نفسها. هل يمكنك أن توضيح كيف تتناسب السيادة النقدية مع نقدك الأوسع للرأسمالية؟

في ظل النظام الرأسمالي، تحتكر الدولة قانونيًا سلطة إصدار العملة، إلا أنها عمليًا توكل هذا الامتياز إلى البنوك التجارية. وتقوم البنوك بخلق الغالبية العظمى من الأموال في الاقتصاد من خلال عملية منح القروض. لكنها لا تمنح القروض إلا عندما تتوقع إمكانية استردادها وبالتالي تحقيق الربح - أي عندما تخدم تراكم رأس المال. هذا يعني أن سلطة إصدار النقود، وبالتالي تعبئة العمل والموارد، تخضع للربحية الرأسمالية. إنه تعبير مباشر عن قانون القيمة الرأسمالي. حيث لا تُستخدم القدرات الإنتاجية إلا إذا كانت تحقق مكاسب لرأس المال. هذه هي الطريقة التي توجه بها البنوك الاقتصاد: ليس نحو ما نحتاجه، ولكن نحو ما هو مربح.

ولتغيير هذا الواقع، نحن بحاجة إلى أمرين أساسيين. أولاً، إطار توجيه الائتمان، مجموعة من القواعد التي توجه الإقراض المصرفي بعيدًا عن القطاعات المدمرة مثل الوقود الأحفوري والانبعاثات الناتجة عن الرفاهية، وتدفعه نحو الاستثمارات الضرورية اجتماعيًا. ثانيًا، نحن بحاجة إلى توسيع دور التمويل العام. يجب على الدولة أن تصدر الأموال مباشرة لتمويل السلع والخدمات الأساسية مثل الطاقة المتجددة والإسكان والنقل العام، حتى لو لم تكن تلك القطاعات تحقق أرباحًا مباشرة لرأس المال الخاص. 

فهناك أسطورة مفادها أننا لا نستطيع إنتاج سوى ما هو مربح. لكن في الواقع، طالما لدينا العمالة والموارد، يمكننا إنتاج أي شيء نقرره جماعيًا. العائق الوحيد هو سياسي. بمجرد إضفاء الطابع الديمقراطي على إصدار النقود، يمكننا تحرير الإنتاج من حتمية الربح وتنظيمه وفقا للاحتياجات البشرية والبيئية.

دون كالب: هذا مقنع للغاية. حيث يرى العديد من أصدقائي اليساريين في أوروبا أن اليورو يشكل العقبة الرئيسية. إنهم يدافعون عن فكرة العودة إلى العملات الوطنية لاستعادة السيادة. لكنني أتبنى موقفًا آخر: ينبغي علينا إضفاء الطابع الديمقراطي على اليورو نفسه. فهذه دول صغيرة مترابطة. وإن العودة إلى العملات الوطنية تنطوي على مخاطر التفكك وتجدد التبعية لقوى خارجية مثل الولايات المتحدة، التي ستسعى لاستغلال تناقضاتنا لصالح مصالحها الخاصة. ما رأيك؟

أتعاطف جدًا مع هذا الرأي. وأنا أتفهم أهمية السيادة النقدية من خلال العملات الوطنية، فهي توفر مزيدًا من السيطرة المباشرة على الإنتاج والإنفاق. لكنها تجزئ أيضًا النضال. إذا كان يتعين على كل دولة في منطقة اليورو أن تخوض معركتها الطبقية بشكل مستقل من أجل التحول الاقتصادي، فسوف يكون التقدم في أحسن الأحوال متفاوتًا وضعيفًا. إن المسار الأكثر استراتيجية يكمن في إصلاح قواعد البنك المركزي الأوروبي. ويمكن تحقيق ذلك بسرعة على المستوى المؤسسي. يمكننا تمكين الدول الأعضاء من توسيع الاستثمار العام على الفور من خلال تعليق قيود التقشف.

وسوف يقول المنتقدون إن هذا من شأنه أن يؤدي إلى التضخم، ونعم، إذا قمت ببساطة بحقن التمويل العام دون تعديل بقية الاقتصاد، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة الطلب على العمالة والموارد المحدودة. لكن يقدم تراجع النمو الاشتراكي البيئي حلاً: تقليص الإنتاج الضار وغير الضروري مثل سيارات الدفع الرباعي والسفن السياحية والطائرات الخاصة، وإعادة تخصيص العمالة والموارد نحو الأنشطة المفيدة اجتماعيًا. هذا يعمل على استقرار الأسعار مع تغيير هيكل الاقتصاد.

فالتضخم ليس عائقًا تقنيًا، بل هو عقبة سياسية. السبب الحقيقي لوجود قواعد التقشف هو الحفاظ على مساحة لتراكم رأس المال دون منازع. فإذا قمنا بتحويل الموارد الإنتاجية نحو السلع العامة، فإننا نهدد هيمنة رأس المال في النظام. هذا ما تحاول النخب منعه عندما تستند إلى نسب الديون وحدود العجز كحجة.

دون كالب: كانت هناك لحظة غريبة مؤخرًا. قال ترامب في إشارة إلى التضخم شيئًا مثل: "بدلاً من 18 دمية باربي، سيكون لدى أطفالك اثنتان". كانت حجته هي أن السيادة الاقتصادية أهم من الوفرة المادية. لقد وجدت الأمر مثيرًا، فهو بطريقة ما، يعبر عن نوع من الرسائل المناهضة للاستهلاك. أليس هذا جزءًا من خطر الفاشية اليوم؟ يبدو مناهضًا للنيوليبرالية، لكنه ليس مناهضًا للرأسمالية.

هذا صحيح تمامًا، ووجدت تلك اللحظة مثيرة للاهتمام أيضًا. حتى أن بعض الناس زعموا أن ترامب كان يتبنى تراجع النمو، وهو أمر خاطئ تمامًا. تراجع النمو هو فكرة مناهضة للرأسمالية في الأساس. مفهوم تراجع النمو يعني تقليص الإنتاج المدمر بيئيًا وغير الضروري مع توسيع نطاق السلع العامة والتجديد البيئي والعدالة الاجتماعية. ولا يفعل ترامب شيئًا من ذلك.

ولكن هناك شيء يمكننا تعلمه من تلك اللحظة. لقد تمكن من الترويج لفكرة التضحية المادية، "عدد أقل من دمى باربي"، باسم السيادة والفخر الوطني. هذا يدلنا على شيء مهم: الناس على استعداد لقبول حدود على الاستهلاك إذا قُدمت ضمن رؤية أوسع وذات مغزى. وفي كثير من الأحيان، نفترض نحن اليساريين أن الناس لن يقبلوا أي نوع من القيود المادية. لكن هذا ليس صحيحًا. ما يهم هو السرد. إذا قدمنا للناس رؤية متماسكة للحرية والكرامة والديمقراطية الاقتصادية وكوكب صالح للحياة، فيمكننا أن نطرح حجة قوية من أجل التحول. يكمن التحدي في صياغة هذا السرد بطريقة مقنعة عاطفيًا وأخلاقيًا.

وبالتأكيد، لكي يكون تراجع النمو عادلاً، يجب أن نضمن تلبية الاحتياجات الأساسية. وهنا يأتي دور ضمان التوظيف العام. والذي سيسمح لنا بإعادة توجيه العمالة من القطاعات الضارة إلى القطاعات المفيدة، بأجور كريمة وديمقراطية في مكان العمل. هذا هو الفرق بين الانتقال الاشتراكي البيئي والتقشف الاستبدادي.

ماريا ديفيكي ستيف: يجعلني هذا أفكر في كيفية بناء بديل اشتراكي ديمقراطي حقًا. خاصة في الشمال العالمي، كيف نقنع الطبقة العاملة بأن هذا المستقبل، القائم على التضامن العالمي والحدود والعدالة، كما قلت، هو أفضل مما لديهم الآن؟

هذا سؤال مهم. ويجب أن نساعد الناس على فهم أن وفرة المستهلكين في الشمال مبنية على التبادل غير المتكافئ، وتقوم على استغلال العمالة والموارد في الجنوب العالمي. الموضة السريعة، الإلكترونيات الرخيصة، الاستبدال المتكرر للمنتجات، يعتمد كل ذلك على نظام عالمي للاستحواذ. لكن الأهم من ذلك، يجب أن نظهر أن الطبقة العاملة في الشمال لا تنتصر فعليًا في ظل هذا النظام. ما كسبوه في السلع الاستهلاكية الرخيصة، فقدوه في القدرة السياسية والاستقلالية والحرية الجماعية. لقد أُهملت مطالبهم بنزع الصفة التجارية عن السلع الأساسية، والديمقراطية في مكان العمل، والسيطرة على الإنتاج.

استخدم رأس المال الواردات الرخيصة لتهدئة معارضة الطبقة العاملة، بينما عزز سلطته. لذا فإن الجائزة الحقيقية للعمال ليست في الحصول على هاتف آيفون آخر، بل هي الديمقراطية والكرامة والمستقبل الملائم للعيش. نحن بحاجة إلى إعادة إحياء هذه الرؤية، التي ترتكز على المصالح المشتركة مع الجنوب العالمي. إن المفتاح الأساسي يكمن في عرض التحول الاشتراكي البيئي ليس كخسارة، بل كتحرر من الاستغلال وعدم الاستقرار والانهيار البيئي. وهنا يصبح التضامن حقيقيًا: ليس بالعمل الخيري، وليس بالمساعدات التنموية، ولكن بالنضال المشترك من أجل عالم أفضل.

ماريا ديفيكي ستيف: بالضبط. هذا هو التوتر الذي أراه. من الواضح أن النخب الغربية هي المسؤول الأول عن الإمبريالية والتدمير البيئي. ولكن في بلدان مثل النرويج، يستفيد أفراد الطبقة العاملة أيضًا ماديًا من التبادل غير المتكافئ، فتمولها دولتنا المرفهة من خلال عائدات النفط، والواردات الرخيصة، والاستخراج حول العالم. كيف نبني تضامنًا مناهضًا للإمبريالية في ظل تلك الظروف؟ وكيف ندعم التغيير الثوري في الجنوب مع تعبئة الشمال؟

إنه تحدٍ بالغ الأهمية والتعقيد. أولاً، علينا أن ندرك أن المشهد قد تغير منذ ستينيات القرن العشرين. في ذلك الوقت، وصل العديد من القادة في الجنوب العالمي إلى السلطة من خلال الحركات الجماهيرية المناهضة للاستعمار. وكان لديهم تفويضات لإحداث تحول اشتراكي. ولكن بمرور الوقت، تعرضت هذه الحركات للقمع أو الاحتواء أو الإطاحة بها، غالبًا بدعم غربي، واستُبدلت بنخب الكومبرادور التي تستفيد من الترتيبات الإمبريالية الحالية. ولا تهتم تلك النخب بالتحرير. فهي تتحالف مع رأس المال العالمي، حتى لو عانى سكانهم. ولهذا السبب، يتعين على الحركات التحررية المعاصرة في الجنوب أن تواجه ليس فقط الإمبريالية الغربية، بل أيضًا الطبقات الحاكمة المحلية.

وهنا تبرز أهمية التحرر الوطني. إنها ليست مسألة مساعدة أو تنمية؛ إنها تتعلق بالسيادة السياسية والقوة الجماعية. ويجب على التقدميين الغربيين دعم تلك الحركات - ليس من خلال الأعمال الخيرية، ولكن من خلال التضامن. وهذا يعني الخروج عن منطق المجمع التنموي الصناعي ودعم الثورات الشعبية التي تسعى إلى استعادة السيطرة على الموارد والإنتاج والحكم. أنت على حق: العمال في الشمال يستفيدون ماديًا بطرق معينة. لكنهم أيضًا يفتقرون بشدة إلى التمكين. لديهم سلع استهلاكية رخيصة، ولكن ليس لديهم سيطرة ديمقراطية على الإنتاج. استخدم رأس المال التبادل غير المتكافئ لشراء مطالب الاستقلالية والكرامة. لذا فإن الطبقة العاملة لا تفوز حقًا. بل تُقدَّم أوهام الازدهار لها، بينما تتآكل حقوقها وحرياتها الأساسية.

نحن بحاجة إلى استراتيجية ذات جبهتين. في الجنوب العالمي: حركات التحرر الوطني التي تفكك التبعية الاستعمارية الجديدة. وفي الشمال العالمي: الحركات التي تطالب بالسيطرة الديمقراطية على الإنتاج والتمويل. معًا، هذا هو الطريق لإنهاء الرأسمالية. فالأمر ليس مسألة اختيار، بل هو ضرورة وجودية.

دون كالب: هذا منطقي، لكنه يثير مشكلة حقيقية تتعلق بالتوقيت السياسي. إذا أدت حركات التحرر الوطني في الجنوب إلى قطع تدفقات القيمة إلى المركز، فسيؤدي ذلك إلى التضخم ونقص في السلع وردود فعل سياسية. فهل ستكون حركات الطبقة العاملة في الشمال مستعدة للاستجابة بالسرعة الكافية بالاستثمار العام والحماية الاجتماعية ورؤية جديدة؟ أم أن اليمين المتطرف سيبادر أولاً؟

هذا هو الخطر البالغ. إذا لم نستعد، فقد نرى نتيجة مظلمة للغاية. تخيل سيناريو يبدأ فيه الجنوب العالمي في الانفصال بنجاح، سواء من خلال مبادرة الحزام والطريق الصينية، أو التكتلات التجارية الإقليمية، أو غيرها من الوسائل. هذا يقطع تدفقات العمالة الرخيصة والموارد والأرباح إلى المركز الإمبريالي. ويتراجع الاستهلاك فجأة في الشمال. إذا لم يبني اليسار خطة متماسكة لما بعد الرأسمالية، فإن رأس المال سيعمل للحفاظ على هيمنته. فما هو مآل ذلك؟ الفاشية. سحق العمالة في الداخل، وخفض الأجور المحلية، وقمع المعارضة. هذا هو المسار الذي أعتقد أن ترامب يستعد له، ليس لأن لديه خطة واضحة، ولكن لأن منطق تدهور الإمبراطورية يتطلب ذلك.

لهذا السبب يجب أن نقدم بديلاً حقيقيًا. والخبر السار هو أن لدينا البيانات اللازمة. تظهر الأبحاث أنه يمكننا الحفاظ على مستويات المعيشة في بلدان الشمال أو حتى تحسينها مع تقليل كبيرفي استهلاك الطاقة والموارد. لكن ذلك يتطلب إزالة صفة السلعة عن الخدمات الأساسية مثل الإسكان والنقل والصحة والتعليم لحماية الناس من التضخم وضمان رفاهيتهم دون الاعتماد على السوق. هذه هي مهمة اليسار: التأكد من أن انهيار الاستهلاك الإمبريالي لا يصبح بوابة للاستبداد، بل نقطة انطلاق للديمقراطية والتحرر.

دون كالب: وهذا يقودنا إلى مسألة محورية: التنظيم السياسي. أعتقد أننا نتفق جميعًا على أن الاحتجاج وحده لم يعد كافيًا. لقد رأينا تعبئة هائلة على مدار العقد الماضي مثل الإضراب الطلابي من أجل المناخ "يوم الجمعة من أجل المستقبل" والتمرد ضد الانقراض، لكنها لم تسفر عن تغيير حقيقي. ماذا بعد ذلك؟

بالضبط. وصلت ثقافة الاحتجاج في العقد الماضي إلى طريق مسدود، رغم أنها كانت مفعمة بالطاقة بشكل لا يصدق. وأدت المظاهرات المناخية الضخمة إلى خروج الملايين إلى الشوارع. ولوهلة، بدا أن الطبقة السياسية ستضطر إلى الاستجابة. لكنها لم تفعل ذلك. ولم يحدث أي تحول ملموس.

نحن الآن في وقت الحساب. ويشعر الناس بخيبة أمل لأنهم يدركون أن هذه الأفعال لم تكن كافية. حيث تتبدد الطاقة، ويظل النظام قائمًا كما هو. لهذا السبب أعتقد أننا بحاجة إلى العودة إلى شيء كان الكثيرون مترددين في الحديث عنه: الأحزاب. ليست الأحزاب التقليدية التي تعمل داخل حدود المؤسسات الليبرالية، ولكن الأحزاب الجماهيرية للطبقة العاملة، وهي أدوات لبناء القوة الفعلية. ويجب أن تكون هذه الأحزاب متجذرة في النقابات والمجتمعات والمنظمات الشعبية. ويجب أن تعمل وفق مبادئ الديمقراطية الداخلية مع وجود تماسك استراتيجي. وقد يعني ذلك العودة إلى شيء مثل المركزية الديمقراطية، التي أثبتت أنها أكثر فعالية من الأفقية في تحقيق التغيير البنيوي.

 فيديريكو توماسوني: هذا له صدى عميق. حيث شهد الكثير منا من جيلنا صعود وسقوط ما يُعرف بـ "حركة الحركات"، أي التحالف الواسع بين الحركات الاجتماعية المختلفة. وكنا نؤمن بالأفقية، بالجمعيات العامة، والاستقلالية، وتوافق الآراء. لكن بمرور الوقت، أصبح من الواضح أن تلك الأشكال لم تكن دائمة أو فعالة بما يكفي لمواجهة رأس المال. فقد كان من السهل تحييدها أو قمعها. ونحن الآن نواجه أزمة تتمثل في تراجع الحراك الجماهيري، خاصة بين الطبقة العاملة. وبعد عقود من الهجمات النيوليبرالية، أصبحت النقابات والمنظمات العمالية إما مفرغة أو خاضعة. ولكن في الوقت نفسه، وعود الاشتراكية الديمقراطية قد اندثرت تمامًا. لم يعد رأس المال يشارك العمال بأي شيء. لذا فقد انتهت الصفقة القديمة، والسؤال الكبير هو: كيف نعيد البناء؟

هذا هو سؤال القرن، وهو يبدأ بالوضوح بشأن ما ينبغي لحركة الطبقة العاملة أن تناضل من أجله. في الوقت الحالي، تجد العديد من النقابات نفسها محاصرة في موقف دفاعي، وتحاول الحفاظ على الوظائف من خلال التوافق مع رأس المال، على أمل أن تصل ثمار النمو إلى أعضائها وتساعدهم على البقاء. لكن هذا المنطق هو فخ. ومن المحرج بصراحة، أن النقابات في عام 2025 لا تزال ترى النمو الرأسمالي كحل لعدم استقرار الطبقة العاملة.

علينا أن نرتقي بالنضال من مجرد تحسين الأجور والظروف إلى استعادة الطموحات التحويلية للحركة العمالية. وهذا يعني النضال من أجل ضمانات الوظائف العامة، والخدمات العامة الشاملة، والسيطرة الديمقراطية على عمليات الإنتاج. وينبغي للنقابات أن تتصدر مشهد التحول البيئي، وليس أن تكون عقبة أمامه. ويجب عليها أن تتحرر من منطق رأس المال وأن تتوحد مع المصالح الأشمل للإنسانية وكوكب الأرض. تخيلوا: بإمكاننا أن نحشد مئات الآلاف في الشوارع للمطالبة برفع الأجور. لكن لماذا لا نذهب إلى أبعد من ذلك؟ لماذا لا نطالب بإلغاء صفة السلعة عن التعليم العالي، أو سيطرة العمال على الصناعة؟ نحن لدينا الأغلبية. ولدينا القوة. ما نفتقر إليه هو الرؤية السياسية.

ماريا ديفيكي ستيف: أريد أن أضيف على ذلك. إذا كنا جادين في إعادة بناء الأحزاب الجماهيرية، فكيف نضمن أن تكون ذات توجه عالمي؟ إن اليمين المتطرف لا يجد أي صعوبة في التنظيم عبر الحدود. فهم يتعاونون. ويضعون الاستراتيجيات على مستوى العالم. لكن اليسار غالبًا ما ينحصر في الأطر الوطنية، خاصة في أماكن مثل النرويج، حيث يتركز الاهتمام على حماية دولة الرفاهية فقط.  كيف يمكننا أن ننظم جهودنا على المستوى العابر للحدود الوطنية، خصوصًا عبر سلاسل الإمداد العالمية التي تشهد الجزء الأكبر من استغلال العمالة عالميًا؟

هذه نقطة محورية بالغة الأهمية. لا تزال المخيلة السياسية لليسار محصورة إلى حد كبير ضمن حدود الدولة القومية، في حين أن رأس المال أصبح عالميًا. وأصبحت سلاسل الإمداد عالمية. وتزداد الفاشية انتشارًا على الصعيد العالمي. ويجب أن يكون ردنا عالميًا أيضًا.

علينا أن ننظم صفوفنا على امتداد سلاسل الإمداد، من خلال تنسيق الإضرابات والحملات ليس فقط داخل الدول، بل فيما يتعدى الحدود الوطنية أيضًا. يعتبر عمال الجنوب العالمي، وخاصة النساء في المصانع والقطاعات الزراعية، العمود الفقري للاقتصاد العالمي. إذا استطعنا بناء تضامن حقيقي بين هؤلاء العمال ونظرائهم في الشمال، قائم على النضال المشترك لا على الشفقة أو الإحسان، فإننا سنكون قادرين على زعزعة النظام من جذوره.  تخيلوا قوة التحركات المنسقة عبر عقد الإنتاج، من بنغلاديش إلى ألمانيا، ومن المكسيك إلى النرويج. هذا هو مستوى الرؤية الاستراتيجية التي نحتاج إلى تطويرها. الأمر لا يقتصر على كونه ممكنًا فحسب، بل هو مطلب لا بد منه، ويبدأ بإعادة بناء المؤسسات الدولية التي تجسد قوة الطبقة العاملة.

 فيديريكو توماسوني: نعم، ولتوضيح ذلك، تواجه حركاتنا سؤالاً جوهريًا على مستوى الأجيال. لقد شهدنا مرارًا وتكرارًا موجات تعبئة تنهار أمام التحديات. إن الأشكال التقليدية لم تعد مجدية. ولكن كيف نعيد تشكيل التنظيم في ظل الظروف الحالية، عندما تبدو الطبقة العاملة غير نشطة ولا تزال مؤسسات اليسار خاضعة لسيطرة الليبرالية؟

هذا صحيح. لقد مررنا بعملية طويلة من الارتباك. لقد أدى الهجوم النيوليبرالي إلى تفكيك البنية التحتية التنظيمية للطبقة العاملة، من أحزابها، ونقاباتها، ومنصاتها الإعلامية. لذلك نحن لا نبدأ من الصفر، لكننا نبدأ من مكان أضعف بكثير، وأنت على حق: العديد من المؤسسات التي لا تزال موجودة عالقة في عقلية دفاعية. إنهم يتشبثون بالوعود الديمقراطية الاجتماعية التي لم تعد صامدة. لم يعد رأس المال بحاجة إلى تقديم تنازلات. إنه لن يقدم شيئًا للطبقة العاملة، ولا حتى الاستقرار. 

التحدي الحقيقي يكمن في إعادة البناء، لا الاكتفاء بردود الفعل. فنحن بحاجة إلى نموذج تنظيمي جديد. وهذا يتطلب وضوحًا، وانضباطًا، ورؤية بعيدة المدى. كما يتطلب أن نكون سياسيين بلا اعتذار. ونعم، وربما يتطلب الأمر العودة إلى الأحزاب الجماهيرية، لكن على أسس تستند إلى الظروف المعاصرة، والتعلم من نقاط القوة والأخطاء في الماضي.

دون كالب: هذا يذكرني بشيء من جيل سابق. في هولندا، في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، شهدنا حركات احتلال أفقية ضخمة، حيث خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع، واحتلوا المباني، وتصدو جسديًا لقمع الشرطة. لقد كانت حركة ثورية في طاقتها، وإن لم تكن دومًا ثورية في استراتيجيتها. لكننا كنا نفتقر إلى بنية حزبية. وفي النهاية، ردت الدولة بالقمع الوحشي وحملة قمع سياسي شملت مختلف الأحزاب. وتم تفكيك الحركة، وفي غضون سنوات قليلة، وأصبحت هولندا واحدة من أولى الديمقراطيات النيوليبرالية التي تتبنى "الطريق الثالث". إن هذه التجربة التاريخية تشكل تحذيرًا.

بالضبط. لقد رأينا هذا النمط مرارًا وتكرارًا. فالأفقية تُسهم بشكل بارز في تعبئة الناس بسرعة وتوليد لحظات من الخيال الراديكالي. ومع ذلك، فإنها تظل غير كافية. فحين تشتد الضغوط، تُطوى هذه الجهود جانبًا.  ونحن بحاجة إلى هياكل متينة، منظمات قادرة على الصمود، والدفاع عن مطالبها، وتولي السلطة. يجب أن نتعلم من إخفاقات الماضي، ولكن أيضًا نستعيد نقاط القوة السابقة. فالتنظيم والانضباط ووضوح الرؤية ليست مظاهر استبداد. بل هي ضرورية. فإذا لم نبادر إلى بناء أدوات قادرة على دفع النضال قدمًا، فإننا نترك الساحة مفتوحة أمام قوى الاستبداد.

 فيديريكو توماسوني: وفي الختام، وإن عدنا إلى نقطة البداية، يمكننا القول إننا نعيش بالفعل مرحلة حاسمة، أليس كذلك؟ كما اعتاد إيمانويل والرشتاين أن يقول، تصل أنظمة العالم في النهاية إلى نقاط حيث تنقسم مساراتها. إما أن نجد طريقًا للمضي قدما من خلال التحول، أو نسقط في دوامة التفكك والقمع والانهيار البيئي.

بالضبط. وهذا ما يجعل هذه المرحلة خطيرة للغاية. حتى لو لم يكن اليمين المتطرف مدركًا تمامًا لما يستعد له، فإن منطق التدهور العالمي يدفعنا في ذلك الاتجاه. بينما يفقد المركز الإمبريالي إمكانية الوصول إلى العمالة والموارد الرخيصة، فإن الطبقة الحاكمة سترد بالانكفاء على الذات عبر سحق العمالة المحلية وعسكرة المجتمع. ونحن نشهد هذا يحدث بالفعل، وإذا لم يقدم اليسار بديلاً، رؤية ما بعد الرأسمالية تكون متجذرة في العدالة والديمقراطية والاستقرار البيئي، فإن رأس المال سيدير مرحلة الانتقال بالعنف والقمع.

لكن لا يزال لدينا فرصة. فنحن ندرك أن احتياجات البشر يمكن تلبيتها باستخدام طاقات وموارد أقل بكثير. ويمكننا بناء خدمات عامة شاملة. ويمكننا تحقيق استقرار في الأسعار دون نمو. ويمكننا إعادة تنظيم الإنتاج لخدمة الحياة بدلاً من الربح. هذه هي الرؤية التي يجب أن نكافح من أجلها. ليس نظريًا وليس في يوم من الأيام، بل الآن. فالعالم الذي نستطيع أن نحيا فيه لا يزال ممكنًا، لكنه يوشك أن يتلاشى.

Available in
EnglishSpanishPortuguese (Brazil)GermanFrenchItalian (Standard)Arabic
Authors
Jason Hickel, Don Kalb, Maria Dyveke Styve and Federico Tomasone
Translators
Salma Hosatan, Yasser Naguib and Open Language Initiative
Date
22.08.2025
Source
Rosalux.deOriginal article🔗
الاقتصادعلم البيئة
Privacy PolicyManage CookiesContribution SettingsJobs
Site and identity: Common Knowledge & Robbie Blundell