ذات مرّة، قالت لي صديقتي في سجن برونزفيلد، بينما كنّا نتمشّى بتثاقُلٍ في ساحة السِّجن: إنّ أسوأ ما تخشاه هو أن يلجأ الحرّاس إلى حرمانها من وسائل الانتحار التي تخفيها، فأن يُجرَّد الإنسان من هذا القدْر الأخير من الاستقلاليّة، كان يشكِّل بالنسبة لها أشدَّ أشكال الحرمان التي يمكن تخيّلها تعذيباً. وأنا كثيراً ما فكّرتُ في ذلك، لاسيّما في أعقاب الإبادة الجماعيّة في غزة، والانتحار الأخير الذي وقع في سجن لو نيوتن بتاريخ 13 فبراير/شباط 2025. أثناء كتابة هذه السطور، أكون قد أمضَيْت 308 أيام في السجن رهنَ الحبْس الاحتياطيّ، إلى جانب 17 آخرين يُعرَفون جماعيّاً باسم فيلتون 18. 1 لقد وُجِّهت إلينا تهمٌ تتعلّق بالتورُّط في عملٍ مباشرٍ لتخريب مصنعٍ يتبع لشركة إلبيت سيستمز في فيلتون، بريستول، وهو مصنعٌ ينتج أسلحةً من بينها الطائرات المسيَّرة التي تُستخدم حالياً في الإبادة الجماعيّة التي تُرتكَب في غزة. لقد اعتُقلنا ووُضِعنا رهن الاحتجاز بموجب قانون مكافحة الإرهاب، على الرُّغم من أنّ ما وُجِّه إلينا من تهمٍ لم يكن جرائم إرهابيّة.
أنا محتجزةٌ حالياً في سجن لو نيوتن، بعد أن أمضيْت فتراتٍ في سجن برونزفيلد أيضاً، وسجن بولمونت. ووجدت نفسي من زنزانتي، وأنا أتابع بثَّ التغطيات الإعلاميّة الليبراليّة السائدة حول الإبادة الجماعيّة في غزّة، من زنزانتي، غارقةً في التأمُّل في خضوع الفلسطينيّين ومقاومتهم، باحثةً عن أوجه الشبه مع أساليب السيطرة المفروضة على السجناء في المملكة المتحدة.
وقد بذل الموظفون قصارى جهدهم لتحاشي انتشار أخبار الانتحار في السجن، لكنّ الخبر انتشر في كلِّ الاتِّجاهات، في غضون 20 دقيقةً؛ فالجميع يعلم ما يعنيه ’الرمز الأزرق‘، وعندما يتبعه إغلاقٌ لكامل السجن، فلا يمكن أن يعني إلا شيئاً واحداً، لذلك اعتُبِر الإعلان عن الوفاة للسجناء رسميّاً في صباح اليوم التالي أمراً يثير الريبة. حيث ظهرت أمامنا امرأةٌ لم نرها من قبل، ترتدي بلوزةً من الساتان بلون الذهب الورديّ، وحذاءً لامعًا أنيقاً، لتخبرنا بـ’الرحيل المؤسف‘ وتدعونا إلى التحدُّث مع الموظفين إذا شعرنا بالحاجة لذلك. وبعد إنهاء هذه المقدِّمات الشكليّة، انتقلت إلى الغرض الرئيسي من خطابها: وهو التحكُّم في المعلومات. فحذَّرتنا من نشر الشائعات، وحثتنا على عدم التكهُّن بسبب الوفاة. أشارت إلى الانتحار باعتباره ’صدمة‘ و’مأساة‘، كما لو كان حادثاً غريباً غير مألوف، أمرٌ غير مسبوقٍ نهائيّاً، ولن يتكرَّر أبداً، وكأنّنا، كما قلت لنفسي، لم نكن محاصَرين في منظومةٍ ممنهجةٍ للموت يرأسها نخبةٌ من علماء تحسين النسل ذوي التسريحات الأنيقة، والجباه المعقودة الحاجبين لإبداء تعاطفٍ مصطنع.
لو أنّ إحدى النزيلات هنا، أخذت كلام المرأة ذات القميص الحريريّ على محمل الجدّ، وائتمنت أحد الضباط على سرِّها، لوُضِعَت فوراً قيد ما يُسمّى بـ ACCT. لا أعرف ما الذي يمثّله هذا الاختصار، بالرُّغم من أنني خضعت له بنفسي عند وصولي لأوّل مرّة (رغماً عن احتجاجاتي الشديدة)، لكن الجميع يعلم أنه نذير شؤم. حيث تُنقَلين إلى زنزانةٍ فارغةٍ، بلا أثاث (تُعرَف بين السجينات بـ ’زنزانة الوقاية من الانتحار‘)، وأحياناً يُجبرونِك على خلع ملابسك، وارتداء ’ملابس خاصّة لمنع الانتحار‘، وتُخضعين لنظامٍ صارمٍ من التفتيش كلِّ نصف ساعةٍ، أو ربع ساعةٍ، طوال الليل. تكون هذه التفتيشات على شكل عينٍ تظهر من ثقبٍ في الباب أو في الجدار، مصحوبةً بضوءٍ كاشفٍ مُبهرٍ بعد أن تكون الأضواء قد أُطفِئت. وصوتٌ ينبح باسمكِ بقسوةٍ، إن لم تتحرّكي لتثبتين أنّك ما زلت على قيد الحياة. إحدى صديقاتي، قد سُجنت وهي طفلةٌ ثم بلغت العشرينيات، قد عانت من هذا الإجراء لمدّة عامٍ كامل. ولا حاجة للقول إنّ الهدف ليس تهدئة المشاعر الانتحاريّة، إنّما مجرَّد منع تنفيذها تحت أنظار الدولة.
يكاد لا يمرّ أسبوعٌ لا يصدر فيه تقرير تفتيشٍ جديدٍ، يشجب ’أزمة الصحّة العقليّة‘ في سجون المملكة المتّحدة،2 والظروف المروِّعة التي تدفع الكثيرات إلى اعتبار الموت مخرجهنّ الوحيد. ووفقاً لمفوَّض السجون والمراقبة القضائية، في عام 2023، فقد أقدم سجينٌ على إنهاء حياته كلَّ ثلاثة أيّام ونصف، بينما أشار مقال في صحيفة Inside Time إلى أنّه في عام 2024 مات عددٌ أكبر من الأشخاص في السجون الاسكتلنديّة، مقارنةً بعدد ضحايا جرائم القتل في عموم اسكتلندا. لكن تركيزنا على مثل هذه الإحصاءات المثيرة يخفي وراءه إغفالاً لعددٍ لا يُحصى من حالات الاقتراب من الموت: كمحاولات الانتحار، والإعاقات الناجمة عن الإهمال الطبيّ المزمن، 3والآثار المدمِّرة للأنظمة اللاإنسانية التي تُبقي أعداداً متزايدة من السجناء محبوسين في زنازين ضيّقة لما يزيد على 22 ساعةً يوميّاً.4 قصّة صديقتي ساندرا5، نموذجٌ مؤلمٌ على ذلك. فقد عانت آلاماً مبرحةً لأسابيع، وتوسّلت لرؤية أحد أفراد الطاقم الصحيّ في السجن؛ وبعد أسابيعٍ من الانتظار، خضعت للمعاينة أخيراً، ولكنّهم لم يكترثوا لما تشكو منه. ففقدت أكثر من ثُلثَي وزنها، حتّى باتت غير قادرةً على السير إلّا ببطءٍ في الممرِّ، متكئةً على مشّايةٍ قديمةٍ تخصُّ سجينةً أخرى. ولم يستدعوا الإسعاف إلا عندما عاد أحد الضباط من إجازته، وصُدِم بمدى ضعفها وهزالها. فأرسلوها بسيّارة الإسعاف، وعندما وصلت إلى المستشفى كانت في حالة فشلٍ متعدِّدٍ في أعضائها، وكان الأوان قد فات لإنقاذ معظم أمعائها التي استُؤصلت واستُبدِلَت بكيس فغر القولون. بوزنها الذي لا يتجاوز 35 كيلوغراماً، لم يكن الأطباء متأكِّدين من قدرتها على تحمُّل العمليّة، فوافقت ممرِّضة فاعلة خيرٍ، على إيصال خبرٍ إلى أسرتها التي لم يُخطِرها السجن خَشْية أن تحاول السجينة الهرب. ووقف أطفال ساندرا حول سريرها يبكون، بينما وبّخ شقيقها الحراس على الإهانة القاسية المتمثِّلة في السلسلة المثبَّتة على معصمها، والتي بدت أثقل وزناً منها. أجّل الحرّاس العمليّة، دون أدنى قدرٍ من التعاطف، رافضين الانصياع لتعليمات الأطباء بفكّ قيود ساندرا كي تدخل غرفة العمليّات دون موافقة السجن. وبعد أن تصالحت ساندرا مع فكرة الموت في سن الحادية والأربعين، نجت بأعجوبة. ولكنّها لو تلقَّت الرعاية الطبيّة قبل أشهرٍ، لما كانت قد احتاجت إلى هذه الجراحة القاسية التي غيّرت حياتها على هذا النّحو.
جاءت جارتي كيتي، 6 إلى السجن وهي تتناول الكودئين، الذي وصفه لها طبيبها قبل عشر سنوات، لتهدئة آلام الأذيّة العصبيّة في عمودها الفقريّ، التي نتجت عن خطأ في إجراءٍ فوق الجافية. وأخبرتها ممرِّضة السجن أنّها لا تستطيع الحصول على الكودئين وعليها الاكتفاء بالباراسيتامول. وللتعامل مع أعراض الانسحاب، وُصِف لها الميثادون – وهو دواء بديلٌ عن الهيروين. بعد شهرَيْن، ستغادر كيتي سجن لو نيوتن وهي تعاني من إدمان الميثادون رغم أنّها لم تتعاطَ الهيروين في حياتها أبداً.7
وبالرُّغم من القسوة الشديدة في نتائج هذه الأمثلة، لكنّ أسبابها عاديّة. فالعاملون في المجال الطبيّ داخل السجون، حين تُتاح لنا رؤيتهم، يشكِّكون غالباً بصورةٍ روتينيّة في صحّة ما نبلِّغ عنه من أمراض، لأنّهم اعتادوا على النظر إلى جميع السجناء باعتبارهم انتهازيّين، ومتلاعبين، ومتقاعسين عن العمل، ومدمني مخدرات.8 فالمرض أو إيذاء النفس الذي يستدعي الذهاب إلى المستشفى يُعامَل تلقائيّاً كأنّه محاولةٌ للهروب، ومن هنا جاء تردُّد الحرّاس في فكّ قيود ساندرا حتى وهي تُدفَع إلى غرفة العمليّات. (وتروي نزيلةٌ أخرى أنّها حين ذهبت إلى المستشفى، كان المقيَّد بها متشكِّكاً حتى في إصرار الطبيب على أنّه لا يمكنه البقاء مقيَّداً بها أثناء دخولها جهاز التصوير بالرنين المغناطيسيّ. ومرّةً أخرى، كان لا بدّ من إجراء اتصالاتٍ للحصول على إذنٍ قبل أن يُسمَح لها بالخضوع للفحص).
يُعَدُّ سياق هذا الإهمال الطبيّ، وانعدام الثقة، بيئةً تضرُّ بالصحّة بصورةٍ بديهيّة. فإلى جانب الضغط النفسيّ الناتج عن اقتلاعنا من حياتنا، وإحاطتنا بحالةٍ من العداء التي تتطلّب حذراً مفرطاً، فإنّنا نتناول تغذيةً رديئة، إذ تتكوّن وجباتنا في الغالب من كربوهيدراتٍ رخيصةٍ مرتفعة المعالجة، وإذا لم تكن وظائفنا تتطلّب نشاطاً بدنياً، فإنّ فرص ممارسة الرياضة تكاد تنعدم. وليس غريباً أنّ واحداً من كل خمسة سجناء يعاني من داء السكري من النوع الثاني، بحسب صحيفةInside Time . 9 أمّا النوم الجيد فهو شديد الندرة، إذ يُفلِت ممّن لا يجدون منّا الراحة على الحصيرة البلاستيكية الزرقاء، الرقيقة الموضوعة فوق رفٍّ صلبٍ يُسمّى سريراً، أو ممّن يوقظهم ضوء كشّاف دوريّات الليل الذي يخترق ظلام الزنازين. وتُعدُّ الليلة هادئةً إذا اقتصرت إعاقات النّوم على هذه العوائق وحدها؛ أما الأسوأ فهي الليالي التي يتمزَّق فيها الصمت بصراخ النزلاء المتألِّمين وعويلهم، أو بأصوات الارتطامات الجوفاء المخيفة لدقِّ الرؤوسٍ بالجدران أو بالأبواب. في البداية كانت هذه الأصوات تتسبّب لي في غصّةٍ من الحسرة في حلقي؛ أما الآن فصرت أضع واقيات الأذن فوق سداداتها وأحاول النوم على ظهري.
لا يمكننا اختزال هذه الحقائق في أرقامٍ تجذب الانتباه في عناوين الصحف، حتّى عندما تُنشئ حملةً عن الموت البطيء، الذي ينتقص من أعمارنا المتوقَّعة إضافةً إلى السنوات التي تسلبها الدولة من حياتنا خارج السجن. وبالمثل، فإنّ التحليلات الشائعة للدمار الناجم عن إبادة إسرائيل للفلسطينيين تُعطي الأولويّة لأعداد القتلى فوق كل الاعتبارات الأخرى، مما ينقل بمكرٍ، انطباعاً زائفاً بأنّ الجرحى، والمرضى، والجوعى، والمصابين بالرضوض، والمفجوعين سيكونون بخير. إنّ سياسة جيش الاحتلال الإسرائيليّ الموثّقة على نطاقٍ واسعٍ، والمتمثِّلة في ’إطلاق النار بهدف التسبُّب في العجز‘ 10 بدلاً من القتل، غالباً ما تُفسَّر خطأً من قبل الجماهير الغربيّة على أنّها دليلٌ على التزام الجيش بالمحافظة على الحياة غير أنّه في ظلِّ الحرمان الاستراتيجيّ من الموارد، والتدمير الموجَّه للبنية التحتيّة، حيث يخضع توفير الرعاية الطبية، والوقود، والكهرباء، والطعام، والماء أو حجبها لسيطرة المحتلّ الإسرائيلي. مما يجعل الممارسة المستمرّة والمُمَنهجة للتسبُّب في العجز بمثابة حكمٍ بالإعدام البطيء المؤلم. والأهمّ من ذلك، أنّ هذه الوفيات المؤجّلة لا تُنسَب إلى جيش الاحتلال، مما يخفِّض، وهميّاً، من حصيلة القتلى التي لا تثير، أصلاً، سوى قدراً طفيفاً من الانزعاج لدى الحكومات الغربيّة التي تموِّل الإبادة حين تتذرَّع بذريعة إسرائيل في ’الدفاع عن النفس‘. إنّها تكتيكٌ لم يُصمَّم لاسترضاء الليبراليين الغربيّين فقط، بل، أيضاً، لحرمان الفلسطينيين من شرف الشهادة وكرامتها، حين لا يملكون خياراً سوى الموت.
في عام 2016، وثّقت تقاريرٌ صادرةٌ عن مركز بديل – (المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين)، حملات إطلاق النار على رضفة مفصل الركبة، في مخيّمات اللاجئين في جميع أنحاء الضفة الغربية، موضِّحةً بالتفصيل تصريحات ضابطٍ إسرائيليّ أدرك هذا التغافل تماماً، بل وتلذَّذ به. حيث يصرِّح النقيب نضال قائلاً: 'سأجعل جميع شباب في هذا المخّيم معاقين'، بينما ذكرت الصحفيّة الإسرائيليّة أميرة هاس لهآرتس أنّ نضال يخاطب الشباب قائلاً لهم: إنّه لن يكون هناك شهداء في المخيّم، لكن "سينتهي الأمر بكم جميعاً على عكازين".11 ويصف جاسبير ك. بوار، مؤلف كتاب الحقّ في التشويه الجسدي، ذلك بأنّه ’استهداف للموت، لكن دون قتل‘12 ويكمل: ’كأنّ حجب الموت يصبح فعلاً من أفعال نزع الإنسانية: فالفلسطينيون ليسوا حتى بشراً بما يكفي ليستحقّوا الموت‘ 13.
ومن المفارقات التي كثيراً ما يُشار إليها أنّ الدول الغربيّة التي تؤمِّن الجزء الأكبر من التمويل لوكالة الأونروا (وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى)، هي نفسها التي تمنح إسرائيل المليارات لشراء الذخائر، التي تُستخدَم لاحقاً في تدمير المدارس والمستشفيات التي تبنيها الأونروا. ومثل هذه المفارقة المستعصية تتجلّى أيضاً في موقف الحكومة البريطانيّة من السجون. فقد أعلن التقرير السنوي للسجون لعام 2023-2024 أننا نعيش في "أوقات عصيبة"، مشيراً إلى أنّ حالات الانتحار، وإيذاء النفس قد ارتفعت "بشكلٍ ملحوظٍ" في سجون الرجال، وتضاعفت في بعض المؤسسات. وفي الوقت نفسه، فإن معدّل إيذاء النفس في سجون النساء يزيد تسع مرات عن نظيره في سجون الرجال.
ومع ذلك، في نهاية عام 2024، أعلنت المستشارة العليا، ووزيرة العدْل شبانة محمود، عن خطّة حكوميّة بقيمة عشرة مليارات جنيه إسترليني، لبناء أربعة سجون جديدة خلال السنوات السبعة المقبلة، لتوفير 6,400 مكانٍ إضافيٍّ لاستيعاب العدد المتزايد من السجناء في المملكة المتّحدة. من ثمّ، قد لا يبدو التناقض هنا واضحاً؛ فربّما يخفِّف بناء المزيد من السجون من الضغط الناجم عن الاكتظاظ، وربما يُستخدَم تدفُّق الأموال لإعادة تأهيل السجناء ودعمهم؟ لكنّني أنصح كلَّ من يميل إلى مثل هذا التفاؤل، أن يلاحظ الغياب الصارخ، لأيِّ ذكرٍ للتغييرات الثقافيّة في تصريح الوزيرة شبانة محمود. فالتأكيد ينصبُّ حصراً على التوسُّع الماديّ، دون أن يبدو أحدٌ منشغلاً بالسؤال الجوهريّ: لماذا يتزايد عدد السجناء باستمرار؟
طبعاً، إنّ طرح مثل هذا السؤال يعني الاعتراف بأنّ "المجرمين" باتوا يشكِّلون فئةً ينتجها المجتمع، ومن هناك يصبح من الصعب تجنُّب الاستنتاج بأنّ جميع الأحكام المُسَبقة التي يسرُّنا أن نهنِّئ أنفسنا على تجاوزها كمجتمعٍ لا تزال حيّةً ومزدهرة، وقد أُعيدت صياغتها تحت مسمّى "الإجرام". والحقيقة البسيطة هي أن المزيد من السجون لا يعني سوى المزيد من السجناء الموتى والمعاقين. وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ فأيُّ محاولةٍ للتعامل بجديّةٍ مع الأسباب الجذريّة ليأس السجين ستقود بالضّرورة إلى إلغاء السجون – وعندها سيخسر جميع الحراس وظائفهم.
نحن لا نستخدم عقوبة الإعدام في هذا البلد، ولكن ما لدينا هو منظومة السجون، تأخذ في التوسُّع والازدياد قمعاً، إلى جانب أجهزة الدولة المتنامية بسرعةٍ في مجالات المراقبة والسيطرة والانضباط، ونتيجة لذلك فإن الموت والإعاقة قد لا يكونان الهدف المُعلَن، لكنّهما بلا شكٍّ النتيجة الحتميّة.
في كلٍّ من الدعاية الإسرائيليّة والبريطانيّة، يُمنَح الخطاب المراوغ حول مسألة النوايا وزناً كبيراً في تقييم النتائج. فكلُّ مقالٍ أو تقريرٍ يكشف عن حجم إخفاقات السجون، يفيض بالأسى المصطَنَع وهزّ الرؤوس، وبالتعازي الفارغة لعائلات الضحايا، وبالوعود بأن الجميع يبذلون قصارى جهدهم لضمان أن يحدث عكس ما يحدث الآن. ولا يهمُّ كثيراً أنّ معظم السجناء هم من العائدين إلى الجريمة 14 (إذ إنّ السجن لا يقلِّل من معدّلات العودة للجريمة 15)، لأن النيّة المُعلَنة هي تقليل إعادة ارتكاب الجرائم. نعم، لقد وصف كبير مفتشي السجون السابق بيتر كلارك معدلات الانتحار وإيذاء النفس في السجون البريطانيّة بأنّها ’فضيحة‘،16 لكنّ ما يجب عليك أن تفهمه هو أنّ جميع موظفي السجون ملتزمون باحترام السجناء ورعايتهم، وتنمية قدراتنا لتحقيق إمكاناتنا وترك طرقنا الإجراميّة وراء ظهرنا.
وبالمثل، علينا أن نتوقَّف فعلاً، عن التكرار المملِّ لحقيقة أنه بعد عام من الإبادة، كان ما يقرب من 70% من ضحايا إسرائيل من النساء والأطفال، إذ لو كنت تتابع "كلاالجانبَيْن"، لعلمت أنّ إسرائيل ’لا ترغب في إيذاء السكان‘، كما قال نتنياهو في مؤتمرٍ صحفيٍّ في ديسمبر/كانون الأوّل 2023. إنّ مبدأ ستافّورد بير ’غرض النظام هو ما يفعله‘ يوفِّر أداةً مفيدةً لتجاوز هذه الفجوة بين الأقوال والواقع. فلا معنى للإصرار على نيّةٍ مزعومةٍ تتناقض باستمرارٍ مع النتيجة. فإذا كانت إسرائيل حقاً لا تنوي قتل المدنيين، لكان بوسع جيشها أن يمتنع عن قصف المدارس والمستشفيات والمخيّمات المكتظّة باللاجئين. وإذا كانت الحكومة البريطانيّة صادقةً في رغبتها بتقليل الاكتظاظ في السجون، لكان بإمكانها التوقُّف عن إعادة اعتقال أشخاصٍ بسبب مخالفات سخيفة لرخصة الإفراج، مثل التأخُّر في الوصول إلى موعد المراقبة عشر دقائق، كما حدث مع صديقةٍ أخرى التقيت بها في سجن برونزفيلد.
في السجن، كما في فلسطين المحتلة، يظلُّ شبح الموت مخيّماً دائماً، سواءٌ كان مفاجئاً أو بطيئاً، مرغوباً أو مرفوضاً. لكن بينما يُستخدَم الموت كأداةٍ حادّةٍ وفعّالةٍ للسيطرة البيوسياسية (لإزالة السكان غير المرغوب فيهم) فإنّ إنكار الموت يُستخدم أيضاً. فعبر استهداف الأطفال بإحداث العجز، يكسب جيش الاحتلال نقاطاً إنسانيّةً لدى الليبراليين الغربيّين الساذَجين، ويشلّ أيَّ مقاومةٍ مستقبليّة. إنها تقنيّةٌ محسوبة مضادّة للتمرُّد، تستبق توقُّع إيلون ماسك بأنّ الأيتام الفلسطينيين المصدومين والمفجوعين سيكبرون لينضموا إلى حماس. 17 وقد اعتبر البعض هذه الملاحظة لحظةً نادرة من البصيرة لدى ماسك، لكنها في الواقع تكشف عن عجز الناس عن إدراك حجم الإعاقة العميقة التي يعانيها الأطفال الفلسطينيون. ومع ذلك، فقد أصاب ماسك حقيقة مهمّة: الموتُ محفّزٌ. فكم من الغربيّين يعرف أسماء فلسطينيّين موتى أكثر من الأحياء؟ وكم يجدون الفلسطينيّين أكثر إقناعاً وقبولاً كضحايا حين يُذبَحون، لا حين يقاومون؟ إن قوّة الموت في الإيقاظ والإثارة والتسييس والدفع إلى الفعل، هي ما يدفع بريطانيا وإسرائيل إلى حجب الموت عن ’فائض السكان‘ لديهما. فكلا الدولتين تبقيان هذه الفئات في ظروفٍ مفعمةٍ بالبؤس واليأس، بحيث يصبحون أضعف من أن يقاوموا، بينما يُحرَمون أيضاً من موتٍ كريمٍ يمكنه أن يسمو بنضالهم.
18 المغزى هنا ليس أن يكون لدينا المزيد من الشهداء، أو المزيد من حالات الانتحار في السجون. ولا أريد حتّى التضحية بمزيدٍ من الأرواح في سبيل النضال الثوريّ. ما أريده هو أن نسأل أنفسنا: لماذا ننتظر قدوم الموت ليحرّك مقاومتنا؟ لا أحد غيرنا يحدِّد عتبة تحمّلنا للظلم سوى نحن الشعب. ما كان ينبغي أن يصل الأمر إلى الإبادة الجماعيّة، وما كان ينبغي أن يصل إلى السجن الجماعيّ. ومع ذلك، فإنّ النتيجة الطبيعيّة البديهيّة، لحقيقة وجود هذا القدر الكبير من التشابه بين ظروف السجن، وظروف الاحتلال الإسرائيليّ، يعني أنّ استراتيجيّات المقاومة ذاتها يمكن تطبيقها على كلا النضالَيْن. ففي سعينا لتحرير فلسطين، لا يسعنا إلا أن نتحدّى المنطق الزائف الذي يقوم عليه الإجماع على أنّ السجن حلّ اجتماعيٌّ صالِح. وبالمثل، فإن سعينا نحو إلغاء السجون هو التزامٌ منّا بالقتال من أجل عالمٍ لا يستطيع فيه أحدٌ أن يسلب أيّ كائنٍ آخر حريته.
1 To learn more about the Filton 18 and support their campaign for freedom, please follow @freethefilton18 on Instagram and Twitter.
2 ‘Mental Health Failings at Gartree and Lewes Found After Inmate’s Death’, Converse, August 2024; p. 7; ‘Prisoners are Poorly’, Inside Time, May 2024, p. 11; ‘IMB Watch’: Forest Bank, Drake Hall, Guys Marsh, Inside Time, May 2025, p. 15; ‘Lives at Risk over Inaction on Prisons, says Report’, Converse, August 2024, p. 23; ‘Teenager Kills Himself at Scottish Young Offender Institution’, Converse, August 2024, p. 33; ‘IMB: Leicester Prison Under Pressure’, Converse, August 2024, p. 35; ‘HMP Liverpool is a cluster death site ... completely inhumane’, ‘IMB Report Published: HMP Liverpool’, Converse, October 2024, p. 16; ‘HMP Ryehill: Self-Harm Cases Up 40%’, Converse, October 2024, p. 33; ‘Rochester Prison: Urgent Notification’, Converse, October 2024, p. 38; ‘HMP Durham – Risk Assessment Concerns Raised Again After Cell Suicide’, Converse, January 2025, p. 39.
3 ‘You Can’t Visit Him Today, He’s Dead’, Inside Time, May 2024, p. 15; ‘We’ve Lost Your False Leg’, Inside Time, October 2024, p. 11; ‘The Mount: Third Critical Death Report in Three Months’, Converse, October 2024, p. 10; ‘Woman Told Officers She Felt Suicidal’, Inside Time, November 2024, p. 14; ‘Naked Barking Man Wasn’t Treated’, Inside Time, February 2025, p. 14; ‘A Deadly Diagnosis: If You Have Cancer in Prison, You’re More Likely to Die From It’, Inside Time, February 2025, p. 16; ‘No Help for Self-Harmers’, Inside Time, May 2024, p. 2; ‘Not a Place for Disabled Prisoners’, Inside Time, May 2024, p. 4; ‘Hopeless Healthcare’, Inside Time, May 2024, p. 9.
4 ‘Endless Bang-up’, Inside Time, November 2024, p. 26; ‘The Figures Say It All’, Inside Time, November 2024, p. 26.
5 Not her real name.
6 Another pseudonym.
7 Horrifyingly, this appears to be standard practice. A prisoner at HMP Parc testifies that ‘healthcare is an absolute shambles – they take people off their pain relief and put them on methadone scripts’; ‘No Structure Here’, Inside Time, November 2024, p. 6.
8 The nurse made an ‘error of judgement’, having ‘mistakenly believed he had taken drugs’; ‘Prisoner Died After Nurse Called Off Ambulance’, Inside Time, February 2025, p. 15.
9 ‘One in five prisoners has type 2 diabetes’, Inside Time, 31 December 2024, https://insidetime.org/newsround/one-in-five-prisoners-has-type-2-diabetes/#:~:text=The%20data%2C%20released%20to%20The%20Times%20following%20a,sugar%20in%20the%20blood%20to%20become%20too%20high. Accessed 11/05/2025
10 ‘Specially trained Israeli units, then, shoot in a calculated manner in order to cripple, while keeping the statistics of Palestinians killed low’; Tanya Reinhart, Israel/Palestine: How to End the War of 1948, p. 114. Puar, citing Reinhart (p. 113): ‘In 2002, Israeli linguist Tanya Reinhart analysed “the policy of injuries” during the Second Intifada ... Citing interviews with IDF soldiers from the Jerusalem Post, she selects a representative sample from Israeli sharpshooter, Sergeant Raz ... who proclaims, “I shot two people ... in their knees. It’s supposed to break their bones and neutralise them but not kill them”’, Jasbir K. Puar, The Right to Maim, p. 131. ‘A delegation of Physicians for Human Rights concluded “that is Israeli soldiers appeared to be deliberately targeting the heads and legs of Palestinian protestors, even in non-life-threatening situations”’; Ephron, Boston Globe, 4 November 2000, cited in Jasbir K. Puar, The Right to Maim (North Carolina, US: Duke University Press, 2017), p. 131. ‘During the Second Intifada, there were reports that the IDF were using “high-velocity” fragmenting bullets that created a “lead snowstorm” effect in the body – scattering the bullet throughout and creating multiple internal injuries ... dumdum bullets, which are banned under international human rights law, are difficult to extract after they entered and exploded outward within the body and usually guarantee that those hit will “suffer for life”’, Puar, The Right to Maim, p. 131.
11 Puar, The Right to Maim, p. 221.
12 Puar, The Right to Maim, p. 139.
13 Puar, The Right to Maim, p. 141.
14 Peter Cuthbertson, ‘Who goes to prison? An overview of the prison population of England and Wales’, Civitas, December 2017, p. 2 https://www.civitas.org.uk/content/files/whogoestoprison.pdf.
15 ‘Abolition of short custodial sentences’, The Suntory and Toyota International Centres for Economics and Related Disciplines,https://sticerd.lse.ac.uk/case/new/research/Inequalitiesand_Poverty/policy-toolkit/crime-short-custodial-sentences.asp. Accessed 11/05/2025.
16 Jamie Greierson, ‘Prison suicide rate is a scandal, says HM chief inspector’, The Guardian, 9 July 2019, https://www.theguardian.com/society/2019/jul/09/jails-slow-react-deluge-of-drugs-hm-chief-inspector. Accessed 11/05/2025.
17 Elon Musk, quoted in ‘Elon Musk: War, AI, Aliens, Politics, Physics, Video Games, and Humanity | Lex Fridman Podcast’, Lex Fridman, 9 November 2023, https://www.youtube.com/watch?v=JN3KPFbWCy8. Accessed 11/05/2025.
18 For a harrowing testament to the belief in death’s power to catalyse change, see ‘Prisoner Hoped Suicide Would Change IPP Policy’, Inside Time, October 2024, p. 12.